عاجلنحن والغرب

واشنطن و طالبان الأفغانية والعلافات المتشابكة 

متابعة :  ألفت مدكور
يعد الموقف الأمريكي الحالى من حركة طالبان الأصولية فى أفغانستان مثال واضح على تذبذب وتغير السياسات الخارجية الأمريكية وفقا لمصالحها، فقد تحول حليف الأمس إلى عدو اليوم وسرعان ما انقلبت الولايات المتحدة على الحركة عقب أحداث 11 سبتمبر أيلول عام 2001 وقامت بغزو العاصمة كابول ومطاردة عناصر الحركة.
كانت الولايات المتحدة، قد قامت بدعم الحركة منذ نشأتها وقبل سيطرتها على الحكم عام فى أفغانستان عام 1996 بعد انسحاب الجيش الأحمر السوفيتي، وبعد عدة سنوات من الحرب الأهلية المدمرة، سعت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقييد الوجود السوفيتي في أفغانستان، وتسهيل دعم مادي وعسكري كبير لمقاومي الاحتلال السوفيتي من الأفغان، ووقتها نوقشت العديد من المشاريع في الكونغرس لتقديم دعم مادي وإغاثي وعسكري للمجاهدين.
وأظهرت مجموعة وثائق تم تثريبها فى ذلك الوقت مكونة من ألف صفحة من صفحات البيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية رفعت عنها السرية، أنه في عام 1980 أنفقت وكالة المخابرات حوالي 100 مليون دولار على دعم معارضى السوفيت وكان هذا السعي ناجحًا وخرج السوفيت من البلاد عام 1989 حيث بدأت ملامح قصة جديدة في تاريخ أفغانستان التي كان ينتظرها تحول عميق على يد الولايات المتحدة.
عقب خروج السوفيت من أفغانستان نشبت فوضى وصراع بين الحركات المتنافسة على الحكم بدعم خارجى ونهبت العاصمة كابول، وفي خريف عام 1994، اجتمع عدد من المقاتلين في ولاية قندهار في محاولة لتقديم حلول للانفلات الأمني الذي تعيشه البلاد وقدمت حركة طالبان نفسها كحركة وليدة نشأت من بين طلاب المدارس الدينية، تسعى لاستعادة الأمن والانضباط في تلك المرحلة لم يتبادر أي حديث عن رؤية سياسية أو فكرية وقتها، لكن مع تطور الوقت أخذت الحركة فى استخدام العنف والتشدد، ففي 4 أبريل/ نيسان 1996 أعلن الملا محمد عمر في اجتماع للعلماء في قندهار عن مبادئ الحركة التي اعتبرت بمثابة مشروعها للحكم، وكانت عبارة عن 18 مبدأ شكلت الجوانب الأساسية لأداء طالبان في الحكم.
وكان أهم هذه الجوانب إقامة الحكومة الإسلامية على نهج الخلافة الراشدة، وأن يكون الإسلام دين الحكومة والشعب وأن يستمد قانون الدولة من الشريعة الإسلامية وأن يتولى علماء الدين المناصب المهمة في الحكومة، ومنحت الحركة الملا عمر لقب أمير المؤمنين وجعلته في قمة هرم السلطة ذا صلاحيات مطلقة، كما تشكل مجلس إدارة الإفتاء، وكانت له سلطة رمزية.
أما هرم السلطة فتصدره مجلس شورى الحركة المناط به تقديم النصح والمشورة وكان يرأسه الملا عمر ويضم بين أعضائه عددًا من الشخصيات بينها من هم من غير الأفغان مثل أسامة بن لادن الذي كان ينوب عنه في حال غيابه عبد الباسط المصري أحد قيادات تنظيم القاعدة
علاقة الحركة مع واشنطن
انعكست هذه التوجهات على سياسات وممارسات متشددة في حكم وإدارة طالبان لأفغانستان، فطردت الموظفين المنتمين للحزب الشيوعي، وقتلت الرئيس محمد نجيب الله من دون محاكمة ،وعلقت جثته في الطريق العام وأبعدت النساء عن مجالات الحياة ،ومنعتهن من التعليم والعمل وفرضت عليهن لباسًا معينًا وتعاملت بقسوة مع أقليات أفغانية.
وبرزت ممارسات طالبان بشكل يوصف بـ”الوحشي” في تطبيق العقوبات للمخالفين للقانون الذي فرضته مع تعمد إيقاع العقوبات في أماكن عامة.

وأغلقت هذه الممارسات الباب أمام طالبان للحصول على الاعتراف الدولي من قبل الأمم المتحدة التي اشترطت تغيير سياسات الحكم وشكله، لكن خلف الأبواب المغلقة فُتحت الأبواب الأميركية عبر مسار دبلوماسي واقتصادي وأمني،وكانت “ليلى هيلمز” الأفغانية عرابة علاقة طالبان مع واشنطن والتي ترتبط بعلاقة نسب مع ريتشارد هيلمز الذي شغل منصب مدير الاستخبارات المركزية الأميركية حتى عام 1973، ورتبت اجتماعًا بين قيادات طالبان ومسؤولين أميركيين في واشنطن، وأصبح منزلها أشبه بسفارة مصغرة لرجال طالبان.
ورغم هذه المؤشرات لوجود خطوط اتصال غير رسمية بين واشنطن وطالبان وتنسيق لأغراض اقتصادية مع شركات غربية إلا أن عزلة طالبان لم تخف طوال فترة التسعينيات، وعزز من تلك العزلة استضافة طالبان لتنظيم القاعدة حيث أصبحت أفغانستان ساحة للتنظيم بقيادة أسامة بن لادن.
شكلت الحركة ملاذًا آمنًا للقاعدة في مرحلة عملها في ما تسميه القاعدة “الجهاد العالمي”، وكانت تلك المرحلة الأهم والأخطر في تاريخ حركة طالبان ،وكانت العلاقات بين القاعدة وطالبان وثيقة وفي الوقت نفسه مضطربة، ولكن مع هجمات 11 سبتمبر 2001 التي نفذتها القاعدة ضد الولايات المتحدة وجدت طالبان نفسها في مواجهة واشنطن والمطالبات بتسليم أسامة بن لادن.
وتحول البيت الداخلي في طالبان إلى ما يشبه غرفة عمليات حيث يتدارس ويقدر الموقف تفاديًا لضربة مدمرة لمشروعه في أفغانستان. لكن القرار حسم برفض تسليم بن لادن لتتدخل الولايات المتحدة وحلفاؤها في الصراع الأفغاني وتقصي طالبان عن الحكم وتطاردها في كل أفغانستان.
ووجدت الحركة نفسها مستهدفة ومشتتة لتختفي بعدها في الجبال الوعرة. وبعد بضع سنوات بدأت طالبان بالعودة إلى الواجهة من جديد وعملت على ترتيب هيكلها الداخلي وبنيتها التنظيمية والقيادية وبرز فيها تيارات وتوجهات مختلفة تحمل في كل منها وجهة نظر في الشأنين السياسي والعسكري وتوازن وتقيم تجربتها السياسية وعلاقاتها السابقة.
ولم يكن سقوط نظام طالبان ومطاردة قيادتها وتشتتها في الجبال في مقابل محاولة الولايات المتحدة بناء دولة بديلة في أفغانستان إلا بداية لمرحلة جديدة من تاريخ أفغانستان.
أما الولايات المتحدة الأميركية فقد تقاطعت مصالحها مع مصالح طالبان، فلم تمنع ظهورها في بداية الأمر، ثم سرعان ما اختلفت المصالح بعد ذلك فانقلب الوضع وأصبحت من ألد أعدائها.
في البداية رغبت الولايات المتحدة في ضرب الأصولية الأفغانية بأصولية أشد منها حتى تخلو الساحة لجماعة أصولية واحدة تستطيع تطويعها في فلك السياسية الأميركية بعد ذلك.
مثّل يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 يوما فاصلا في تاريخ حركة طالبان، إذ اعتبرت الولايات المتحدة أفغانستان وحركة طالبان هدفا أوليا لانتقامها، بعد رفض الحركة تسليم زعيم تنظيم القاعدة آنذاك أسامة بن لادن، وقالت إن واشنطن لم تقدم الأدلة التي تثبت تورطه في هجمات سبتمبر.
وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2001، غزت الولايات المتحدة مدعومة من دول أخرى أفغانستان، فيما قامت قوات تحالف الشمال (الجبهة الإسلامية القومية لتحرير أفغانستان) بخوض معارك برية أدت إلى إسقاط حكم طالبان.
وبعدها دخلت الحركة في حرب شاملة مع أميركا وحلفائها في كل أفغانستان، ونفذت عمليات كثيرة ضد القوات الأجنبية في أنحاء البلاد، واستمر صراعها معها عدة سنوات. وبعد عام 2010 بدأت القوات الأجنبية تغير قناعتها في حربها على حركة طالبان، وتميل بعض قياداتها إلى أن الحل العسكري لن يحسم المعركة في أفغانستان، ولابد من حل سياسي.

وفي أوائل عام 2012، عُقدت آمال كبيرة على إجراء محادثات سلام، لكن الحركة علقت في مارس/آذار من العام نفسه مفاوضات السلام التمهيدية مع الولايات المتحدة. لكن المحاولات لم تنقطع حيث سمحت دولة قطر بأن تفتح الحركة في 18 يونيو/حزيران 2013 بالدوحة مكتب اتصال، وأكدت أن فتح المكتب جاء تمهيدا لإيجاد حل للنزاع في أفغانستان.
وقال مصدر مسؤول في الخارجية القطرية: إن “المكتب.. هو المكتب السياسي لطالبان أفغانستان في الدوحة، وليس المكتب السياسي لإمارة أفغانستان الإسلامية”. واعتبرت واشنطن المكتب المذكور “خطوة أولى مهمة” نحو تسوية سياسية في أفغانستان.
توصلت واشنطن وحركة طالبان في نهاية مايو/أيار 2014 -بوساطة قطرية- إلى صفقة جرى بموجبها إفراج الحركة عن جندي أميركي (كان أسيرا لديها لخمس سنوات) مقابل إطلاق خمسة من قادتها كانوا معتقلين في سجن غوانتنامو.
وفي أواخر ديسمبر/كانون الأول 2014، وصفت الحركة انتهاء المهمة القتالية لحلف شمال الأطلسي “الناتو” في أفغانستان بـ”الهزيمة” بورغبت واشنطن كذلك في تشديد الحصار على النفوذ الإيراني ومنعه من التوغل تجاه الشرق، خاصة جمهوريات آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين، التي تحوي أكبر ثاني احتياطي نفطي في العالم بعد الخليج العربي؛ لذلك لم تمانع الولايات المتحدة ولم تقف حجر عثرة أمام تقدم طالبان.

زر الذهاب إلى الأعلى