“النوارس”…امتزاج الواقعي بالأسطوري وشخصيات مغلوبة على أمرها

متابعة : أحمد عبد الحافظ
بين أحياء بحري والسيالة والأنفوشي، أشهر المناطق الشعبية بالاسكندرية، تدور أحداث رواية “النوارس” أحدث أعمال الكاتب المصري محمد جبريل،وعبر جمل قصيرة متدفقة أشبه بدوامات البحر يصورجبريل حياة الناس اليومية، يمزج ما هو واقعي مرتبط بعالم البحر ورحلات الصيد، بما هو أسطوري غزلته حكايات الجنيات والعرائس التي تختطف المراكبية، وتغرق المراكب.كما يخلط هموم أبطاله اليومية، ونزواتهم النسائية، وشهوانيتهم،بتساميهم في الموالد وتعلقهم بساحات الذكر والأولياء الذي لا يحده حد.
وخلال أمواج السرد التي تمتزج بروائح البخور ودعوات المحتاجين، والمنكسرين في المساجد والأضرحة، والحارات يبسط جبريل أمام القارئ حياة شخصيات مغلوبة على أمرها مثل والدة مرعي رزة “الشخصية الرئيسية في الرواية”، التي أزعنت لرغبة ابنها، ورهنت بيتها من أجل تدبير تكاليف سفره إلى أيطاليا، ليعود بعد غربة يعلم الله مداها ليستعيده ويتزوج حبيبته ابنة رئيس الصيادين. ومثل تهاميغنيم، الصوفي المتعبد، الذي انغمسبكليتهفيصحبةأربابالفرقوالطرق،وما عاد لديه رغبة في النساء، ورضي بالعيشفيفقر وصوموتوكل على الله. كما تبرز شخصية المتوكل السروجي وحياته فيالبحرالتي أتاحت له الكثيرمنالذكريات،والصداقاتالمؤقتة.يحكي المؤلف عن رحلات السروجيلأوروبا، والتي استمرتعلى مدى سنوات مضت، وعاد منها دون أن يحقق شيئا يضمن به مستقبله، ثم في النهايةيستحضره في مشهد مأساوي ليلقى مصيره،غرقا، مع صديقه رزة وآخرين، على مركب في عرض البحر، كسرتها الأمواج، وقد كانوا يأملون في حياة أفضل من حياتهم في “بحري” فضاعت كلها هدرا في البحر.
وفي مواجهة هؤلاء يقدم جبريل شخصيات أشبهبقراصنة البحر مثل الريس مغاوري وشوقي، ومقاولي الأنفار وتجار الهجرة غير الشرعية، ومعهم الأوسطى عبد الواحد حجاج والريس قباري الحصري الذي يفرض سيطرته مع غيره من شيوخ الصيادين على البحر، ويحدد أوقات الصيد، ويمنع الدخول إلى الشاطئبدون تصريح.
ويطرح المؤلف بين هؤلاء وهؤلاء نماذج شخصيات مغلوبة على أمرها، ضاعت أو ضُيعت، مثل”منى” ابنة الريسقباري التي استسلمت لرغبة أبيها وقبلت أن يغامر خطيبها “مرعي رزة” بحياته في سبيل الزواج منها، فساقته إلى حتفه غرقا، وحٌرمت هي من العيش مع من تحب.وهناك “هنية”وهي فتاة لا عمل لها سوى الوقوف مع والدتها في كشك صغير على ناصية الحي، ومواعدة الشباب، تختار منهم كل يوم من ترضاه، حسب مزاجها،فصارت سيرتها على كل لسان، وهانت في أعين الجميع، بعد أن أدركوا انها تمنح نفسها لأي شخص يدفع الثمن.أما الشباب مرعي وتهامي والمتوكل، فلم يفلح في انقاذهم ولا انقاذ سواهم الشيخ عبد المجيد زيدان، وحفظي أبو السعد اللذينحاولا إثناءهم عن السفر، وراحا ينذرانهم بأن حياتهم مهددة،لكن كلماتهم لم تجد صدى أمام الطموحات التياصطدمتبالأمواج العاتية وغرقت معهم.
وهكذا يقدم محمد جبريل حياة بشر يعرفهم، تابعهم وتابع أمثالهم على مدى 46 رواية و15 مجموعة قصصية،قدمها على مدى 47 عاما،وبدأها برواية “الأسوار”عام 1973 في هيئة الكتاب المصرية، أما روايته الأخيرة “النوارس” فقد طبعتها دار المفكر العربي للنشر والتوزيع، وخلالهاراح يرصد أحلام الصيادين وانكسارتهم، ويتابع مشاعرهم في خوفهم من البحر، وغدر أمواجه، وفي أقبالهم عليه لأنهم يرونه الحل السحري للدخول في سعة من العيش.
وقد سيطر على الأحداث وأجوائها مرعي رزة والمتوكل وتهامي، وهم من شباب الصيادين، الذين أضرتهم قرارات منع الصيد، فقرروا ترك الحي بالكامل، وراحوا يبررون قرار سفرهم بالبحث عن الرزق بعيدا عن الصيد، ما دام هناك من يضيق عليهم حياتهم.لم تردعهم النصائح ولا التوسلات ولا حكاياتالشيخ عبد المجيد زيدان عنالعوالمالسحرية في البحار،وكيف تتحولالأجسادإلىطعاملمخلوقاتها،والبشرإلىقرابينللجنياتومخلوقاتالأعماق.
ومنذ الصفحة الأولى في “النوارس” وحتى نهاية أحداثها، يمكن ملاحظة أن هناك خلطًا مقصودا بين الأماكن والأزمنة، يعتمده الكاتب، حيث يدمج بين الوقائع والأيام في الأسكندرية، وبين ما يُصاب به مرعي وزملاؤه في البحر أثناء رحلتهم الأخيرة.
وفيما يصف الراوي البلانس ويصور أهوال تكسره تحت ضربات الأمواج، يستدعي جلسات الشيخ عبد المجيد زيدان ونصائحه للمتوكل وتحذيره له بعدم السفر، وأحاديث مرعي رزة مع حبيبته منى، وسبحات تهامي غنيم الصوفية في الجنة ونعيمها وما ينتظره في رحابها على يد الحور العين. راح المؤلف يربط بين الواقع ومأساويته والخيال الشعبي والتصورات المتوارثة عن جنيات البحر وهيئتها المخيفة،وقد ظهرت بـ”شعرهاالأشعث،المهوش،وأنيابهاالحادة،وأظافرهاالطويلة،المعقوفة وهي تنفذبهافيالصدر،وتغرسهافيلحمالجسد،وتقتلعالشعر،وتلتهمالأذنينوالأنفوالشفتين وتخمش الوجوه وتشوهها”.
ويتابع جبريل حركة شخصياته، من خلال مقاطع سردية مكثفة، تتدفق عبر مخيلة راو عليم، يعرف الشوارع والحارات والميادين، ومداخل البيوت ونقوشها وألوانها، وأمزجة سكانها، ويجعل الملابس التي يرتدونهارهينة بمشاعرهم، تضيق وتتسع حسب تحولاتهم النفسية، وقناعاتهم الفكرية، ولعل نموذج شخصية المتوكل أبلغ دليل على ذلك، حيث يتابعه المؤلف في تقلباته كفتوه يضع حزاما جلديا حول معصمه، ويسعى لإثارة المشكلات ويجري في طريقها، ثم يراقبه وهو يهيم في ساحات ومقامات الأولياء،مرتديا جلبابا أبيض قصيرا على رصيف البوصيري، ومولد أبي العباس، ثم يضعه الرواي في قلبمشهد متأزم، لم يفلح خلالهشيخهفي إقناعه بعدم السفر، كان يرتدي الجينز وقميصامشجرا. وحين تعطل البلانس بداصامتا، تتلبسه مشاعر الهلع والخوف من الغرق بعد تسرب المياه إليه.
ويلفت الراوي النظر إلى أن البحر يكشف طبائع وشخصيات الناس الحقيقة، يقول من خلال عين “رزة” وهو يتجول بين وجوه ركاب البلانس “لميكن هذا هوالمتوكلالذييعرفه،غابتالجرأة،والميلإلىالمناكفة،حلعليههدوءمتوتر،يحركهالشرود،والصمت،وتقلصالملامح،والتلفتبينالأمواجالعاليةوالجالسينفيالقاربهومثلالجميعمحاصر،وضعيف،لايقوىعلىفعلشيء”، أما تهامي غنيم فبدا في حالة من السكينة، راح يتذكر الأوراد التي حفظها عن شيخه، ويهيئ نفسه لملاقاة الحور العين،فقد كان لديه حلم واحد وحيد ظل يلازمه طوال حياته وهو أن يتزوج بواحدة منهن في الجنة جزاء إخلاصه في العبادة وبعده عن النساء.
الملفت للنظر في استراتيجية السرد التي يعتمدها محمد جبريل،في روايته للأحداث، أنه لا يحكي قصص شخصياته دفعة واحدة،لا يقدمها في متون صلبة يسهل وضع عنوان لها، لكنه يقطرها نقطة نقطة عبر مقاطع الرواية، فلا عناوين هناك ولافصول، وقد راح جبريل يفعل ذلك وهو يحكي قصة عشق مرعي رزة ومنى ابنة الشيخ قباري، منذ أن رآها لأول مرة في ناصية شارع السيالة، ولمحهاتسيرعلىرصيفشارعالحجاري، ثمصبرهالطويلعلىملاحظاتأبيهاوتحذيراتهوتوبيخاته،وشتائمهأحيانًا،حتى مشهد وداعه لها دون أن يلمس كفها أو ينظر في عيونها، وأخيرا وفي لقطة مكثفة بالغة الرهافة يضبطه المتوكل وهو ينظر في مظروف ورقي صغير، وحين يسأله عما فيه، يداري ارتباكه ويقول “ظفرهاتقصَّفباصطدامهافيسورالكورنيش، شيءمنهاأصحبهمعي”.
يذكر أن محمد جبريل يعمل صحفيا، وكان مسؤولا عن الصفحة الثقافية بجريدة المساء القاهرية، وقد قدم للمكتبة العربية 46 رواية و15 مجموعة قصصية، و4 سير ذاتية، و16 دراسة ناقش خلالها الكثير من القضايا الابداعية والثقافية. أما الكتب التي دارت حول رواياته وقصصه فزادت على 15 مؤلفا و12 رسالة جامعية، وقد حصل حديثا على جائزة الدولة التقديرية للآدب عن جدارة، وهي جائزة غابت كثيرا عن إصابة أصحابها ومستحقيها.
