الأديب ناصر الحلواني في حوار خاص “للوسط العربي” حول الأدب والرواية
الحلواني : أستمد من كل فن قدرته على التجريد ووجازة التعبير عن الجوهري

حوار : أحمد عبد الحافظ
أجرى “الوسط العربي” حوارا خاصا مع الأديب ناصر الحلواني أحد كتاب القصة والرواية، المميزين في جيل التسعينيات بمصر.
يعتبر ناصر واحد من كتاب القصة والرواية، المميزين في جيل التسعينيات المصري، كما أنه مساهم في نقل العديد من الأعمال المهمة للغة العربية، يعرفه الكتيرون بنصوصه التي تهتم بالمشهد، وأنسنة الأشياء، وبث الروح فيها، كاتبنا ناصر الحلواني الذي أثر الابتعاد عن المشهد الثقافي، لكنه ما زال يبدع ويترجم، وربما يصدر له قريبا أحد الأعمال شديدة الأهمية، انتهى من ترجمتها مؤخرا، نتحفظ على ذكرها لأنه ما زال يبحث عن ناشر يقوم بذلك.
الحلواني يتميز بالكتابة المكثفة التي تميل إلى الاحتفال بالرمز إلى حد الغموض، درس الفلسفة في كلية الآداب، وتخرج منها عام 1983، وقد لقي بعد صدور مجموعته الأولى مدائن البدء عام 1989 ترحيبا كبيرا من جانب النقاد، لعل أبرزهم الأديب إدوار الخراط، الذي انحاز كثيرا لنصوصه، التي توالت بعد ذلك، وتنوعت بين الإبداع الروائي والترجمة التي نقل من خلالها أعمالًا أدبية ونقدية لكثير من المبدعين الغربيين، وهذا الحوار معه يأتي كمحاولة لتبين وحهة نظره في الكتابة الإبداعية وعوالمها المختلفة…
- في مجموعتك القصصية مدائن البدء هناك نوع من التكثيف الشديد، فضلا عن الاحتفال بمشهدية تقترب كثيرا من التجريد؟
هذا صحيح، ولإدراكي باختلافها عن الكتابة السائدة في ذاك الحين (1989) أضفت، على غير عادة كتاب القصة القصيرة، مقدمة للمجموعة، كدليل إلى وجهتها وكيفية التعامل معها لتحقيق قراءة أفضل، قلت “لتكن البداية تساؤلا، يجيء كأسطورة تقبل كل التفاسير، يستغرق كل الإجابات الممكنة، يأبى على التحدد.هل ثمة نهاية حقيقية، يقين مطلق؟ أم إن النهاية الأولى بداية أولى في الآن ذاته؟ لكن كذلك، ربما، تلك الكتابة؛ سعي إلى الجوهري، إلى وهلات التكثف الإنساني، فيما ترصده من حالات أو مواقف، قد تتجاوز قليلاً، أو كثيراً، أساليب الكتابة القصصية المعتادة والمتوقعة، وقد تقترب، بشكل أو بآخر، من أساليب الكتابة الشعرية، وفي كل الحالات تقف على تخوم العديد من أنواع الكتابة الأدبية والفنون”.
- حدثني عن المؤثرات التي دفعتك للجوء لهذا الشكل في الكتابة، وساعدت في تشكله على هذا النحو؟
بالإضافة إلى الطبيعة الشخصية للكاتب، التي تميلإلى انتقاء ما يلائمها، فقد كان المؤثر الجوهري هو نظرتي الفلسفية إلى العالم، فقد كنت مشبعا بنظرة مثالية، أفلاطونية تحديدا، جعلتني اتجاوز الكثرة الأرضية والمادية إلى الجوهر المعنوي، اللب، فكنت أقصد إلى تجسيد الفكرة، بأكثر من مجرد التعبير عنها، وكنت أرى ذلك في الموسيقى، والفن التشكيلي، وبعض الشعر، وبعض فنيات السينما، والعنصر الأهم كان هو اللغة، وأنت تعلم كم هي ثرية ودقيقة لغتنا العربية، إلى جانب قدرتها الفذة على تجسيد المعاني الجليلة والعميقة بكلمات قليلة، وتجلى ذلك في القرآن والحديث النبوي، وكذلك في الشعر العربي القديم.
- في القصص أيضا تقوم بتضفير الواقعي بالحلمي، والسرد القصصي بالشعري، والمحكي العادي بالسريالي؟ هل كنت تطمح بهذا المزيج ربما لقارئ معين ذي قدرات خاصة لا تتوفر للكثيرين؟
كما ذكرت آنفا، فقد كنت أستمد من كل فن قدرته على التجريد ووجازة التعبير عن الجوهري، ومن بين ذلك كان تراثنا العربي، ومجازه المبدع، والفن التشكيلي بعلاقات ألوانه المشحونة بالمعاني، والموسيقى (الكلاسيكية تحديدا) بعمق لمسها لأغوار المشاعر وتجسيدها لروح الحدث، وغيرها من الفنون والآداب. والحق أنني لم أكن أتوجه بكتابتي إلى قارئ بعينه، كما هو المعتاد والمتصوَّر، وإنما كان طموحي، وما زال، أن تصنع كتابتي قارئها، وهو أمر، أعلم، شديد الصعوبة، وتحدٍ ليس بالهين.
- لكن ما الذي دفعك لكتابة تعاني على هذا النحو من نوع خاص من الاغتراب والهامشية تضاف لاغتراب موجود وواقع بالفعل للكتابة القصصية والإبداعية عموما؟
تلك كانت مغامرتي، التي لم يدركها كثير، حتى من النقاد، وإن وجدت صداها لدى الأكثر من كتَّاب جيلي، والحقيقة أني لم أكن مشغولا بفك معضلة الاغتراب بقدر ما تركز اهتمامي في التعبير عنه، لأنني تصورت أنني فهمت أسبابه، والتي رأيتها في محدودية الثقافة، بين المثقفين! وأقصد بالثقافة معناها الواسع؛ من فهم وقدرة على رؤية الواقع، الاجتماعي والسياسي والبشري والنفسي وغير ذلك، بنظرة متكاملة، بينما يبرع مثقفونا، عادة، في الجانب الأدبي والنقدي فحسب، وكذلك الجهل المنتشر في أوساط العامة، واستغلال ذلك كله من جانب المنوط بهم حل تلك المشكلة. وهي حالة رأيت محاولة الخلاص منها نوع من الهروب والنجاة بالنفس، وكيف أفعل ذلك وأنا صاحب قلم، ويلزمني مشاركة من أعبر عنهم أحوالهم ومصائرهم، ليتحقق الصدق لأعمالي.
- كتابة النص القصصي القصير جدا بهذا الشكل من الغموض إلى ما يمكن رده في وجهة نظرك؟
اسمح لي أن أختلف معك حول المفهوم؛ فالغموض إخفاء ومداراة وتعمية، أما ما قصدت أنا إليه فهو الترميز القابل لفك شفرته، والمجاز المتضمن لمفاتيحه، وإن كنت أتفق معك في صعوبة فك الشفرة، ويرجع ذلك ربما إلى محدودية الثقافة بشكل عام لدى القراء، ولعل هذا مرجعه إلى موضوع القراءة والتعلم في ثقافتنا، ومثال ذلك حين ألجأ في عملي إلى رمز تاريخي، أو أسطوري، أو مفهوم موسيقي أو تشكيلي، فمن لديه تلك الثقافة المتنوعة ليدرك المدلول والمعنى المقصود من ذلك؟ وهذا ما أردت إثارته لدى القراء، أن يُثري النص معارفهم، ويحثهم على البحث عن المعنى، لتنشيط ملكة النظر والنقد والفهم لواقعهم. وأذكر هنا موقفا طريفا، كنت قد كتبت نصا بعنوان “سوناتا النافذة”، وقرأته في لقائنا الدوري، حينذاك، في منزل الأديب إدوارد الخراط، فإذا به يسألني: أنتَ عارف يعني إيه سوناتا؟ فابتسمت وقلت: أعرف. والمقصود؛ أن يحاول القارئ أن يعرف ليدرك الدلالة، ويفك شفرة النص، وتتطور قدراته ليصل إلى فك شفرة العالم.
- في كتاباتك القصصية يكاد يسيطر الحس الصوفي بمعناه المتسامي في العشق والنشوة والسعي لما هو إلهي على أجواء الأعمال ويظهر مضفورا فيما هو حسي وجسدي. كيف ترى ذلك؟ وما الذي ترمي إليه من خلال هذا المزج حيث يتعارض كل عنصر من عناصره في جوهره مع الآخر ويتناقض معه؟
يرجع ذلك إلى طبيعتي الشخصية، وما أثر فيها من جوانب فلسفية وفكرية، فقد كنت، وما زلت، ميالا للعزلة، نظرا لطبيعتي التأملية، والعالم يسلبك هذه المتعة إن قدر على إغوائك وشدك إليه، والتصوف، بمفاهيمه، وأحواله ومقاماته المجردة، وليس بشطحاته الفكرية، هو ما جذبني، أو لنقل انجذب إليَّ، حيث كانت نفسي بيئة خصبة له. أما تجليه أدبيا، فلأنه كان التعبير عن السمو والرفعة والنقاء، وهذا ما رغبت في نقله إلى قارئي، بالإضافة إلى الجانب المعرفي، وأقصد به الجانب الأخلاقي، فالجسد مادةأرضيةمعتمة تتسم بالشهوانية، ولكنه يؤويروحًامن مادة سماوية نورانية تتسم بالأخلاقية، وبينهما يدور الصراع الأزلي الأبدي، ودعوتي أن على الإنسان أن يدرك أن مادة جسده تنطوي على روح نقية، فلا يهملها، وعلى علاقاته بالعالم أن تمضي بحسب هذا الجانب الروحي، وهذا لا يكون فجأة، بل عبر معاناة ترقى به من حال إلى مقام، فحال أسمى، وهكذا، إلى أن يصل إلى حال تجسيد المثال الواقعي، في قلب عالمه الأرضي،وهذا خلاف ما ذهب إليه أفلاطون، من تحقق المثال في عالم المثل المتعالي.
- في رواية مطارح حط الطير تلجأ إلى تفكيك مركزية الحدث. وتعدد مستويات السرد والاجتراء على التناص وهناك هيمنة المتخيل السردي على الواقعي؟ألم تخش أن يؤدي ذلك إلى تشكيل صعوبات وعوائق معينة تجعل تلقيها يحتاج إلى خبرات معينة في القراءة لا تتوفر لدى كثيرين، مما يحول دون تلقيها من جانب بعض القراء؟
بالنسبة لبنية الرواية، ومسألة تفكيك الحدث، فقد رغبت أن تتناول الرواية تاريخ الأندلس منذ عبور طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى ساحل شبه جزيرة إيبيريا (الأندلس)وحتى تسليم أبي عبد الله مفاتيح غرناطة إلى فرديناند وإيزابيللا، وهي فترة بالغة الطول (711م إلى 1492م)، حوالي ثمانمائة عام، بالإضافة إلى أنني لم أقصد إلى كتابة رواية تاريخية بالشكل المعروف، بل قصدت إلى التعبير عن الدلالات والمعاني، واستلهام الأحداث التاريخية، كنوع من فهم التاريخ، للإفادة منه في فهم واقعنا في زمن القراءة، ولهذا كان الشكل الأنسب لذلك، ولطبيعة أسلوبي المكثف والموجز، هو تقسيم التاريخ إلى لحظات حاسمة تعبر عنه، ولعلك تلاحظ، وهو أمر لم يلحظه أو يشير إليه أحد، أن فصول الرواية ثمانية، وتاريخ الأندلس بالقرون ثمانية. أما هيمنة المتخيل، فهو الأنسب لعمل أدبي لا يقصد إلى التأريخ، بل إلى خلق نص إبداعي وجمالي يثير في القارئ شغف النظر إلى الأحداث من وجهة مختلفة، أعمق وأكثر إحاطة. بالإضافة إلى نظرتي إلى الفن عموما، والإبداع الأدبي خصوصا باعتباره عامل تربوي، إلى جانب العاملين المعرفي والأخلاقي، يرقى بذائقة المتلقي، ويحفز لديه الإحساس بالمتعة الجمالية الراقية، فلا يقبل إلا بما هو راقي، سواء في حياته الشخصية أو الاجتماعية، بما يعمل على الارتقاء بالمجتمع الإنساني بشكل عام.
أما صعوبة التلقي، فهذا ما حدث بالفعل، ولكن مرجعه ما سبق أن ذكرته عن الحالة الثقافية والمستوى المعرفي لدى القارئ عموما، فالرواية حشد من الدلالات والإشارات والرموز، فكانت تحتاج إلى معرفة، ولو بسيطة، بتاريخ الأندلس وأهم أحداثه وشخصياته، فعلى سبيل المثال، في فقرة من الفصل السادس “خلوة التجربة”، أقول:
“ملكٌ رأته يتفقدُّ مواقعه، يطوفُ بين جنده، يُصلي بفرسانه، ويسعى بفتوحاته عبر أندلسه، إلى مملكة الغالْ، فتلحقُ بركبِهِ، وتذهبُ والذاهبين إلى غزوهم، يفتحون المدائن العامرة، يغنمون نفائس أيقون وجوهرٍ، يراكمُونَها في خيمة غنائمهم، ويحملون على الإفرنج، يأخذونهم أخذ المتاهة للضَّالِين، بتدبيرِ قائدٍ، دنياه سوى سيف سهل السجايا موسوم بطُغرائه، وروحه سوى حرف يحرث أزمانا بائرة، ليغرسه في معارفها، يتقدم مثل راية، ومثل ريح يتبعه مجاهدوه، ينفذون في الهول المحيط، فتغشى الساحات صلصلةٌ ولغةُ موت، وأنَّاتُ دروع هلعت صُلبانها، تُخادع بفرارها، لتنسلَّ من فلولها المهزومةِ سريةٌ تسلبُ خيمة النفائس المغنومة، فتتبدل سَكرة أعراب وبربر يرتدون عن نصرة ملكِهم ليدفعوا السالبين عن مادة كنوزِهم، تاركين أميرَهُم لسيفه، واختلال يسود صفوف مجاهديه”.
فهل يمكن، ببساطة، أن يدرك القارئ أن ذلك وصف لمعركة “بلاط الشهداء” بقيادة عبد الرحمن الغافقي، رغم أني ذكرت في الفقرة السابقة لها مباشرة:” تُريقُ على جسده بعضا من رمل تحنَّى بدمهِ، وتقرأ آية من كتاب شهادته، فيعبق تيهُها بصوت أذان له سحر نبوءة ترتاد تخيالها، ويتردد في أسماع العابرين، يرتدُّ صداهُ إلى جبل كعَرشِ ملكٍ غافقي، حاشيةُ بلاطِ الشهداء”.
وهكذا تجدني أضع المفتاح إلى جوار اللغز، حتى يفرغ القارئ إلى إدراك الدلالات، وتحصيل المعاني، وفهم لسرائر الحدث، ليشكل ملكة النظر والتأمل لديه، ووعيا بواقعه الذي يحياه بالفعل.
- حدثني أيضا عن موقفك من القارئ باعتباره ضلعا مهما من أضلاع أي عمل إبداعي؟
تقوم العملية الإبداعية، بمعناها الأوسع، على ثلاثة أضلاع: الكاتب والناقد والقارئ. ويحدث الخلل في المجال الإبداعي بضعف واحد أو أكثر من هذه الأضلاع. بالنسبة لمسألة تصور الكاتب لقارئه فأضعها، كإشكالية، على هذا النحو، يبدع الكاتب على النحو الذي يوافق ذاته وخبراته وشخصيته، ويقرأه من يتوافق معه أو يجذبه ذلك، أو يجعل إبداعه على النحو الذي يوافق قارئ بعينه، وربما يكون ذلك مناسبا في كتابة القصص البوليسية، أو قصص الإثارة المسلسلة وما يشبهها، أما حدوثه من مبدع أدبي فهو أشبه بصنع أفلام رخيصة لأجل تحقيق مكاسب مادية.
الأمر بالنسبة لي ليس فقط ما يريده الكاتب من قارئه، بل أيضا ما يريد الكاتب لقارئه، فأنا أسعد بإعجاب قارئي بأعمالي، وكذلك بفهمه لها، ولكني أريد له أن يزداد وعيا، ويرقى أخلاقيا، وجماليا، وإذا حرصت على أن أصنع ما يرضيه تماما، فسيكون ذلك نقيض ما أقصد إليه، للطبيعة البشرية التي تميل إلى السهل والواضح واليسير وما يرضي نوازعها وشهواتها الدنيوية العاجلة، أما الأرقى والأسمى فيتطلب خلاف ذلك؛ جهد، ومكابدة، ومخالفة النفس، وأهوائها. المسألة في مجملها أشبه بصراع فكري بيني ككاتب وبين قارئي، من أجل الوصول إلى حال من التوافق، يفيد فيها كل منا من الآخر.
- يبرز الحضور الشخصي للمؤلف في تضاعيف الرواية والأحداث لديك، ويقوم بنوع من المراجعة والتحليل لصوت الراوي الخارجي والأصوات الأخرى داخل النص، في مكاشفة مع القاريء تسقط أقنعة الوهم القديمة التي كانت تراهن على محاكاة الواقع..
**** مقدمتي لرواية “مطارح حط الطير” مهرتها بتوقيع “نون”، وهو الشخصية الرئيسية، ولكنها جاءت في أسلوب يغاير أسلوب خطاب الراوي في الرواية، أردت بذلك القول أن ناصر الحلواني المؤلف هو نفسه نون بطل الرواية، ورأيتني أشبه بالمايسترو، لا يعزف، ولكن يقود العازفين، فهو موجود، وكان الشكل الفني للرواية يستلزم وجوده، ولو على نحو خفي، ليوجه دفة السرد إلى غايته، فلا يتوهم القارئ أنه أمام رواية تاريخية بالشكل المعتاد، فيفوِّت بذلك الفائدة الجوهرية الكامنة في تخليق نظرة إلى ذلك الحدث المهم والخاص في تاريخه، والاستفادة منه، وكذلك نظرة إلى التاريخ عموما، تقدر على تحصيل خلاصة جوهرية لمساره.
- كيف ترى الواقع وتفاعلاته كمادة للكتابة الإبداعية لديك انطلاقا من قصص “مدائن البدء” و”غوايات الظل”؟
****الواقع، بشكل عام، متشابك ومعقد، وهناك نوع من الخبرات المستفادة بفعل التجارب الشخصية لكل إنسان، ولكن المستفاد بنحو جوهري قليل، كما أن الإنسان لا يمر في حياته بكافة أنواع التجارب، ولهذا، فإن الفن يقوم هنا بتجريد التجارب الفردية ليجعلها عامة، وكذلك بتصوير التجارب الأخرى ليفيد منها من لم يخضها. ودور المبدع، خاصة الأدبي، لا يقتصر على عرض صورة الواقع المعاش، فالسينما، مثلا، أكثر قدرة على ذلك، أما الأدب فمادته الأولى هي اللغة، وهي أصعب تناولا واستخداما، إذ على الكاتب أن يجعل اللغة قادرة على نقل الصورة الحسية، والمشاعر النفسية، والأفكار، وكافة الخبرات الحسية والمعنوية الأخرى بواسطة مادتها المجردة. وفي المرحلة الأولى، كما ذكرت، كنت أتبنى نظرة مثالية تجريدية، وهي سمات بعيدة عن مفردات الواقع وطبيعته، فكان الأنسب اللجوء والاستناد بشكل كبير على اللغة، باعتبارها أقرب في طبيعتها لموضوعاتي. ولكن ذلك لا يعني البعد عن الواقعي والسردي، بل كان الحدث المسرود هو جسد النص، واللغة روحه، وكنت، حينها، أكثر شغفا بالروح، فتبدى ذلك في شغفي باللغة. وفي مقدمتي لمجموعة “مدائن البدء” أقول: “وهذا هو ما تحاول تلك اللغة/الكتابة ـ الإشكالية الأكثر إثارة ـ في سعيها للخروج من أسر التقريرية، وأحادية الدلالة، ووعائيتها المظنون بها، فهي في مجاهدتها من أجل تحقيق الرحابة الدلالية، وسريَّة المرجع، تأبى اتخاذ الموقف البطريركي إزاء المتلقي، فهي لغة شبقة للتعددية، تفترض الكثافة الدلالية شرطاً أولياً لحيويتها، ويرتهن وجودها بقدرتها على الاستمرار في الإحالة، وقبولها الدائم للصياغات المتولدة”.
- في كتابه “الرواية الجديدة” وعن رواية “مطارح حط الطير” قال الدكتور صلاح فضل إنها رغم لغتها الشعرية الفاتنة عجزت عن استيعاب تفاصيل الحياة على الطريقة السردية ولم تستمد نسغها من معاناة الحياة الفعلية، ولا أحداثها الراهنة المعاشة أو المتخيلة، بل تمتح من ذاكرة الكلمات وتعب من سطور الكتب دون أن تعتمد على مرجعية حيوية مكتملة تتيح لها فرصة الانتظام والاتساق..كيف ترى ذلك؟
****مع كل التقدير للدكتور صلاح فضل، فإن بُعدي عن تفاصيل الحياة سردا ليس عجزا، بل أسلوبا وتميزا لشخصيتي الأدبية، فكما قلت، لم أكن أكتب تاريخا، مثلما أبدعت الراحلة رضوى عاشور في ثلاثيتها الروائية “غرناطة” و”مريمة” و”الرحيل”، بل كنت أستلهم تاريخ تلك الحقبة وأصوغ ذلك بنحو شعري، لأصور جوهره وتجليات وجوده وعواقب أحداثه، وهذا لا يتناسب أسلوبا ونظرة مع سرد الوقائع الفردية والأحداث اليومية، مثلما هو الحال في الروايات التاريخية، الضخمة الحجم، فيما لم تزد روايتي عن 120 صفحة، جاءت أشبه بمتتالية شعرية، تترنم بما يشبه فلسفة للتاريخ .
- ترجمت كثيرا من قصص وإبداعات توني موريسون، وإيتالوكالفينو وعبد الرازق جورنه وأوسكار وايلد، وبريخت، وكلاريسلسبيكتور، وكيت شوبان، وأدريانا ليسبوا، وقبلهم أمبرتو إيكو… ما الذي أضافه المترجم ناصر الحلواني لوجهه الآخر الكاتب؟
****تمثل الترجمة لي نوعا من القراءة، المتأنية والعميقة لنوع الكتابة الذي أفضله، ويوافق شخصيتي الإبداعية، ولهذا لا أترجم، في غالب الأحيان، غير الأعمال التي تقترب في مزاجها من أعمالي، وأقصد بذلك الجانب الشعري والكثافة وتألق المجاز، فمعظم من ترجمت لهم هم، إلى جانب كتابة القصة والرواية، شعراء. أما فعل الترجمة بالنسبة لي، فكان ذا فائدتين، الأولى: الانشغال بعمل في فترات الركود الإبداعي، والثانية: نافذة ثقافية ومعرفية بالغة الأهمية، سواء من الوجهة الإبداعية؛ بالتعرف على الجديد من أساليب سردية، ومجازات، وتراكيب، وتصوير إبداعي للأحداث، وبنية العمل، ومن الوجهة المعرفية؛ بالاطلاع على مناهج فكرية، وأساليب تناول الأفكار العميقة ببساطة متمكنة، وكذلك التعرف على حيوات المبدعين، وتأثيرات واقعهم وشخصياتهم على إبداعهم. ومن المؤكد أن ذلك كان مؤثرا في فكري وأسلوبي، وفي تناولي لموضوعاتي القصصية، وإن بنحو غير مرئي. وبشكل عام فإن الترجمة، كاطلاع على ثقافة مغايرة، يحقق نوعا إيجابيا من التحرر الفكري، والانفتاح العقلي، والتنوع الإبداعي، والخروج من أسر المجال البيئي للكاتب إلى رحابة إبداعية لا تحدها حدود.
- في مجموعتك القصصية “غوايات الظل” هناك محاولات للبعد عما قيل عن مجموعتك السابقة “مدائن البدء” التي يغلب عليها التجريد واللغة الشعرية المحلقة بخلاف “غوايات الظل” التي ركزت خلال معظم قصصها على السردي لتكون له الغلبة على فضاء وأجواء العمل القصصي.. ما الذي دعاك للجوء لذلك التحول السريع خاصة وأنك لقيت دعما نقديا كبيرا بعد صدور المجموعة الأولى، لماذا لم تسع في الطريق نفسه وتحفر في نفس الاتجاه؟
****بعد صدور مجموعتي “مدائن البدء”، لمست الإعجاب الواضح بكتابتي وتميزها لدى القراء من الكتاب والنقاد، ولكنني لمست أيضا صعوبة في التلقي لدى القارئ العادي، بل ولدى بعض الكتاب، لما ذكرته من نظرتي المثالية التي دفعتني إلى الاهتمام باللغة والتجريد، وحيث أني كثير المراجعة لنفسي، ولا أنشغل بمسألة الشهرة، وصنع ما يعجب الجمهور، شعرت أني لم أحقق مبتغاي الأصلي والأهم، وهو دوري مع القارئ، وخاصة العادي، فهو من أرغب، بقدر استطاعتي، في تنمية ذائقته الجمالية، ليتخلق لديه معيار يميز به بين الجيد والرديء، وليجد ما يجذبه في العمل فيستمر في القراءة، فشرعت في إعادة النظر في نصوصي الأولى، وبحثت وقرأت الكثير من الكتب النظرية والأعمال الأدبية، وكان من حسن حظي أني عاصرت جيلا رائعا من كتاب القصة والرواية والشعر، كما كانت محاولتي تلك نوع من التطور، حاولت فيه أن أمزج بين أسلوبي الشعري، والتي جاءت نصوصه الأولى أقرب إلى قصيدة النثر منها إلى القصة، وبين تطوير الجانب السردي، وأن أوازن، بقدر المستطاع، بينهما، ليجد القارئ جسدا واضحا يأخذ به بسهولة إلى روح النص. ولعل هذا ما حققته بنحو أكبر في مجموعتي القصصية “أرواح تترى”(2019)، وطبعا نذكر هنا عوامل الخبرة المتنامية، وعمق النظرة، التي أخذتني، فلسفيا، إلى البحث عن المثال المتحقق بالفعل في الواقع.
ففي “غوايات الظل” كانت قضيتي هي ذلك العالم المطمور بالظل، عالم الحقيقة، عالم المشاعر الانسانية والافكار التي دفعت بها ظروف عصر جديد – يؤمن بالسطحي واللامع والقابل للاستهلاك السريع – الى خلفية حياتنا بنوع من القمع المتحضر، وفي الظل كانت لحظات من تاريخ يتم تجاهلها، وكانت فاعليات إنسانية يتم قهرها، ومن جهة ثانية انشغلت فنيا بمحاولة تحقيق التوازن الفني بين اللغة وموضوعها، وهنا كنت انظر الى اللغة كمماثل للون في التصوير، للحجر في النحت، انها لا تقل اهمية بحال من الاحوال عن موضوعها، كما ان ما بينهما، رأيته اشبه بما بين الروح والجسد من علاقة. ومع هذه المجموعة تولدت امامي قضية جديدة اكثر عمومية، تتعلق بالواقع العربي في اللحظة المعاصرة، وبدأت تساؤلات حول انتماءاتنا التاريخية، والى اي حال صارت حضارتنا العربية، وبدأت تأملاتي في تاريخنا، فوجدتني انجذب الى تلك الطبيعة الخاصة بشخصيتنا، ملامحها السلبية التي ادت الى تكرار تفككنا، وفي النهاية الى انهيار حضاري ما زلنا نعانيه حتى اليوم، وملامحها الايجابية الكامنة في الظل، بفعل الضوء المبهر للثقافات الخارجية وهيمنتها الماكرة والهائلة، وتصاعد اهتمامي بتلك القضية حتى قررت ان تكون هي موضوع روايتي الأولى.
- لماذا رجعت، في مجموعة “لحظات”إلى كتابة قصص قصيرة جدا، كأنك تكمل دائرة مدائن البدء وما العناصر اللي اتكأت عليها في كتابة هذه المجموعة؟
****القصة القصيرة جدا، بالمناسبة، تعد من الأشكال الأدبية الصعبة، ففي نص قد لا يتجاوز حجمه ما بين عشرين إلى مائة كلمة يتحقق السردي، والبنية، والصورة، والمفارقة، والوجازة، بالإضافة إلى المعنى المقصود، فكأنما أنت النفَّرِي في مواقفه، أو صوفي تجلت له في لحظة وجْد حقائق وأسرار خفية، أو فيلسوف يضع في عبارة مجمل فلسفته، وأن تجعل ذلك في شكل واضح ومفهوم وبسيط، قادر على أن يحمل إلى ذهن القارئ حكمة، أو فهما، أو تؤثر فيه بشكل يجعله يغير من نظرته العالم. وإذا رجعنا إلى أصل هذا الشكل من الكتابة فسنجده لدى الحكماء القدماء، وإبداعيا، هو نوع من التطور الفكري والإبداعي لدى الكاتب. من ناحية أخرى، ربما جاء هذا الشكل الفني نتيجة للتطور الحاصل في العالم، ثقافيا وتكنولوجيا واجتماعيا، وصار هو الشكل المناسب لقارئ هذا العصر، الذي غلب عليه التعجل وقلة الصبر على تصفح عشرات الصفحات. وبالنسبة لي فإن أعمالي القصصية القصيرة جدا في مجموعة “لحظات” تختلف عن نصوص مجموعة “مدائن البدء” كثيرا، فهي مقصودة في هذا الشكل هنا، كما أنها سردية إلى حد كبير، وبعيدة عن مجال قصيدة النثر الغالب على المجموعة الأولى. وهي في النهاية شكل فني أجرب فيه بمثل ما أحب أن أفعل في أشكال فنية أخرى، مثل القصة الومضة، وهي لا تتجاوز السطر الواحد، والهايكو، وهو شكل شعري سردي في ثلاثة أسطر شعرية.
- هل من أعمال جديدة قادمة؟
****نعم، هناك مجموعة جديدة أوشك على اتمامها، وعنوانها “معنى الوردة”، وهو عنوان إحدى قصصها، تتضمن عددا من القصص القصيرة، بعضها أطول من المعتاد في نصوصي السابقة، آمل أن تكون تطورا جديدا في كتابتي، وأن تلقى استحسانا من القراء.
