نسخة عربية من كتاب “حول الشعر والفلسفة” لسيتوارت مِل

القلوب ذات العمق والارتقاء الأعظم تسعد بالشعر
عرض :أحمد عبد الحافظ
على خلاف كتاباته التي اشتهر بها وتركزت حول الحرية والعدالة وحقوق المرأة ومخاطر الحروب، جاء كتابه “حول الشعر والفلسفة” الذي صدر حديثا عن دار الرافدين العراقيةفي نسخة عربية قدمها للفيلسوف والمفكر الانجليزي جون ستيوارت مِلعن اللغة الدانمركية الشاعر والمترجم والباحث العراقي في علم الاجتماع السياسي المقيم في الدنمارك “قحطان جاسم”. ويشير عنوان الكتاب إلى أنه يختلف عن أرائه التي كانت له الريادة في بعض منها، كموضوع الأقليات في الدول الديمقراطية والدور الذي يمكن أن تلعبه في تعزيز كيانها وقوتها.ويوضح مل خلال الكتاب أراءه المختلفة في الشعر والانسانية، ويظهر وجهًا أخر من اهتمامات”مل”، التي كتب عن بعضها بصورة تفصيلية.
كان مل يرى في مؤلفاته السابقة أن “الخطر الرئيسي في العصر الحالي،”يقصد عصره أي قبل 218 عاما” هو قلة من يجرؤون على أن يكونوا مختلفين”، كان يقول إن “الحرب شيء بشع لكنها ليست أبشع الأشياء، فالشعور الأخلاقي والوطني الفاسد والمَهين بأن لا شيء يستحق القتال من أجله هو أسوأ بكثير”.
في بعض هذه المؤلفات أظهر مل انحيازا كبيرا للمرأة، فقد كتب يقول في كتابه “استبعاد المرأة” 1869″إنني أعلم أن ثمة شعوراً غامضاً يود ألا يكون للمرأة حق في أي شيء اللهم إلا خدمة الرجل!، هذا الإدعاء بمصادرة نصف الإنسانية في سبيل راحة النصف الأخر، ينطوى على رعونة وظلم في آن معاً، فكيف تطيب الحياة لإنسان يعيش جنباً إلى جنب مع مخلوق يشاطره تفكيره وشعوره مشاطرة كاملة، وهو يحرص على إبقائه منحطاً يرى الجهل دون الاهتمام بالموضوعات الراقية كأنما في ذلك سحره وفتنته”، وقد أطلق مقولة وسمت الحقبة التاريخية التي عاش يها، وهي “إن كل ما يقيد المنافسة الحرة هو الشر المطلق، وكل ما يطلقها هو الخير العميم”.
أما عن كتابه حول الشعر والفلسفة فيبدأ “مِل”تأملاتهالفلسفية في تعريف “ما هو الشعر”، يقول إنهدفه “التأثير على العواطف”، يخاطب “المشاعر” ويتوافق مع الخيال، وهو الثمرة الطبيعية للعزلة والتأمل، وهذا ما يجعلهيختلف عنالقصة “يخاطب الاعتقاد” ويتوافق تقريباً مع فئة العقل.
الفرق إذن بين شعر الشاعر وشعر العقل المثقف، هو أنه في الأخير، مهما كانت هالة الشعور الساطعة التي قد تحيط بالفكر، فإنه نفسه هو دائمًا الشيء الواضح؛ في حين أن شعر الشاعر هو الشعور نفسه، ولا يستخدم الفكر إلا كوسيلة للتعبير عنه. في الأول، الشعور ينتظر الفكر؛ وفي الآخر، الفكر على الشعور. فالكاتب الواحد له هدف مميز، مشترك بينه وبين أي مؤلف وعظي آخر: “فهو يرغب في إيصال الفكرة، وينقلها مكسوة بالمشاعر التي تثيرها في نفسه، أو التي يراها مناسبة لها. والآخر يسكب فيضان مشاعره فحسب؛ وكل الأفكار التي توحي بها تلك المشاعر تطفو بشكل غير شرعي على طول النهر”.
قد يساعدنا في جعل معنانا واضحًا إذا قمنا بتوضيحه من خلال المقارنة بين المؤلفين الإنجليزيين في يومنا هذا اللذين أنتجا أكبر كمية من الشعر الحقيقي والدائم، — وردزورث وشيلي. لا يمكن أن نرغب في أمثلة أبتر: يمكن الاستشهاد بأحدها باعتباره نموذجًا أو نموذجًا لما يمكن أن يحققه شعر الثقافة؛ والآخر، ربما باعتباره المثال الأكثر وضوحًا على الإطلاق للمزاج الشعري. كم يختلف شعر هذين الكاتبين العظيمين! الشعر عند وردزورث هو دائمًا مجرد إعداد للفكر. قد تكون الفكرة أكثر قيمة من الإعداد، أو قد تكون أقل قيمة؛ ولكن لا يمكن أن يكون هناك شك حول أيهما كان أولًا في ذهنه. إن ما يثير إعجابه، وما يرغب في إثارة إعجابه، هو اقتراح ما تم تصوره بشكل أكثر أو أقل وضوحًا؛ بعض الحقيقة، أو ما يراه كذلك. فهو يترك الفكر يسكن في عقله، حتى يثير، كما هي طبيعة الفكر، أفكارًا أخرى، وكذلك المشاعر التي يكفي أن يقدمها مقياس حساسيته. من بين هذه الأفكار والمشاعر، لو أنه اختار مسارًا مختلفًا للتأليف (وهناك العديد منها كان من الممكن أن يكون متفوقًا فيها بنفس القدر)، فمن المحتمل أنه كان سيختار مجموعة مختلفة من الوسائط لفرض فكر الوالدين: ومع ذلك، فإن عاداته، تلك ذات التأليف الشعري، فهو يختار أقوى المشاعر، والأفكار التي يرتبط بها معظم الشعور بشكل طبيعي أو معتاد. لذلك، يمكن تعريف شعره بأنه أفكاره، التي تلوّنها العواطف وتثير إعجابها بها. مثل هذا الشعر، شغل وردزورث حياة طويلة في إنتاجه؛ وقد فعل ذلك بشكل جيد وحكيم. لا شك أنه قد يتم توجيه الانتقادات من حين لآخر على الأفكار نفسها وعلى المهارة التي أظهرها في اختيار وسائل الإعلام الخاصة به؛ من الواضح أنها كانت مسألة مهارة ودراسة بالمعنى الدقيق للكلمة. لكنه لم يؤلف عبثًا: لقد مارس، ولا يزال يمارس، تأثيرًا قويًا، وفي الغالب مفيد للغاية، على تكوين ونمو عدد ليس بالقليل من العقول الشابة الأكثر ثقافة وقوة في عصرنا، على الذين كان سيطير شعر رؤوسهم بالوصف المعاكس، بسبب عدم وجود تنظيم أصلي، جسدي أو عقلي، يتعاطف معه.
“لا يكمنالشعر، في رأيه، في الموضوع نفسه، ولا في الحقيقة العلمية نفسها، لكن في الحالة الذهنية التي يمكن فيها تأمل أحدهما وتأمل الآخر، فمجرد تحديد أبعاد وألوان الأشياء الخارجية لا يصبح شعرًا، كما أن المخطط الهندسي لكنيسة القديس بطرس ليس لوحة، ورغم أن الشعر الوصفي يتكون من الوصف، إلا أنهيأتي من وصف الأشياء كما تظهر، وليس كما هي؛ وهو لا يرسمها بخطوطها الطبيعية المجردة، بل يرسمها بالألوان ومن خلال الخيال الذي تحركه المشاعر”.
ويذكر “مل” إن الشعر ليس الشيء الوحيد الذي يؤثر على المشاعر، فالروائيون أيضا يعملون على ترك انطباع عاطفي لدى القراء كما يفعل الشعراء. لكن “هناك تمييز جذري بين الاهتمام الذي نشعر به في الرواية والاهتمام الذي يثيره الشعر؛ لأن أحدهما مشتق من الحادثة، والآخر من تمثيل الشعور”، الشعر لدى “مل” يعمل داخليا؛ أما الروايات فتعمل خارجيا. ويسميها الفيلسوف الانجليزي “نداءات الشعر والبلاغة”. فما هو بليغ لديه يهدف في المقام الأول إلى تحقيق التأثير المطلوب على الآخرين؛ أما ما هو شعري، فيتمحور حول “الشعور الذي يعترف بذاته في رموز هي أقرب تمثيلات ممكنة له وبالشكل الدقيق الذي يوجد به في عقل الشاعر”.
ويضع “مل” يده على فرق جوهري بين الشعر والقصة، مشيرا إلى أن الشغف بها هو شغف طفولة الفرد ببدائية المجتمع، أما العقول والقلوب ذات العمق والارتقاء الأعظم فهي تلك التي تسعد بالشعر.
وهكذا يمكن القول إن جون ستيوارت ميل كان يقدر الشعر ويعتبره متعة أعلى. ولكي نفهم آراءه حول الشعر ومضامينها، يجب أن نفهم النطاق الواسع من الظواهر التي اعتبرها ميل شعرًا. يعبر الشعر عن المشاعر الحقيقية للشاعر وينتج مشاعر نظيرة لدى جمهور يقدره. ولذلك فإن الشعر بالنسبة لميل هو وسيلة للحقيقة. وبعيدًا عن كونه نشاطًا نخبويًا متخصصًا، فإن الشعر يتيح إيصال مجموعة من التجارب الإنسانية العميقة، ويلعب دورا حاسما في التعليم. وهو حسب رأيه “وسيلة لاكتشاف الطبيعة البشرية، ومن خلال فهم الآخرين يمكننا أن نفهم ذواتنا. حيث يتطلب تطويرها فهم الطبيعة البشرية؛ ويتم اكتساب هذه المعرفة تجريبيا، والشعر هو الوسيلة الرئيسية لذلك. ومن ثم، يلعب الشعر دورًا مزدوجًا في المساعدة على تطوير الذات وفي الوقت نفسه تعزيز فهمنا لحياة الآخرين ومشاعرهم.
ويضيف مل أن الشعر “رسم أعمق وأكثر سرية للعاطفة الإنسانية، ولا يستطيعه غير أولئك الذين يستذكرون ما شعروا به، والذين يتحرك خيالهم لتصور ما يمكن أن يشعروا به”، و”الشعراء العظماء “، في رأيه، “غالبًا ما يجهلون الحياة، وما يعرفونه يأتي بملاحظة أنفسهم”، ومن خلال نموذج دقيق وحساس للغاية من الطبيعة البشرية يوجد بداخلهم، كتبت عليه قوانين العاطفة بأحرف كبيرة يمكن قراءتها دون الكثير من الدراسة. مشيرا إلى أن الأشخاص والأمم الذين يتفوقون عمومًا في الشعر هم أولئك الذين تجعلهم شخصياتهم وأذواقهم أقل اعتمادًا على تصفيق أو تعاطف أو موافقة العالم من حولهم.
وخلال تأملاته يتحدث “مل” عن القوى السردية للرسم مشيرا إلى أنها “محدودة للغاية، ونادرًا ما تحكي أي صورة، ولا حتى أي سلسلة من الصور، قصتها الخاصة دون مساعدة مترجم.
ولعبت أفكار مل خصوصاً المتعلّقة بالدفاع عن مساواة المرأة بالرجل، وقضية الحرية والديمقراطية، دوراً كبيراً في تطوّر الفكر السياسي الغربي خاصة والإنساني عامة،ويُعتبر مل، حسب موسوعة ستاندفورد للفلسفة “أشهر فيلسوف أخلاقي بريطاني، والأكثر تأثيراً في القرن التاسع عشر، بما قدّم من إساهمات مهمة في المنطق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق والفلسفة السياسية والنظرية الاجتماعية، حيث كان الداعم الرئيسي لاثنين من التقاليد المعيارية التأريخية المهمةوهما “النفعية والليبرالية”.
ولم يُعرف عن “مل” لدى القاريء العربي اهتمامه بالشعر، بل طغت السمات الأخرى عليه كونه فيلسوفاً ومفكراً عقلانياً منشغلاً بقضايا الفكر التجريبية والعقلية. ولكن الحقيقة أن تعامله مع الشعر بدأ في وقت مبكر من حياته، أو كما يقول هو، بعد أن أصيب بمحنة نفسية في بداية شبابه، “بدأت أكتشف الآن أنني أعثر على معنى في الأشياء التي قرأتها أو سمعتها عن أهمية الشعر والفن باعتبارهما أدوات للثقافة الإنسانية”.
