إبداعات عربيةعاجل

غبار الطريق” مشاهد ولوحات شعرية لقطار بلا قلب”

 

قراءة : أحمد عبد الحافظ

تتركز التيمة الرئيسية في قصائد ديوان “غبار الطريق” الذي صدر حديثا للدكتور عمار علي حسن عن دار العين، في مفردة القطار التي يجعلها الشاعر حاملة لكثير من الدلالات والرموز والإشارات، فهي تارة دودة تتحرك من مكان لآخر، تحمل ركابها بين أحشائها، وتهصرهم، وهي تارة كائن حديدي بلا قلب لا يعبأ بأحلام مستقليه، وتارة أخرى رمزا للانتقال من رحم مسقط رؤوسهم إلى حضن مدينة بلا قلب يسعون فيها لتحقيق أماني لا يستطيعون بلوغ منتهاها حيث يصفهم على حسن بقوله في قصيدة:

المترنحين في حانة

يسبحون في مياه ملونة

والتائهين في دخان أزرق

يراقصون سحبًا نفثها البشر

تتلوى كالعاصفة.

ويقسم عمار ديوانه إلى ثمانية مقاطع، كل منها عبارة عن مشهد أو لوحة شعرية، تعاد ثلاث مرات، وفي كل مرة تأخذ شكلا أو نوعا شعريا مغايرا، الأول يكون وفق “شعر التفعيلة” والثاني يأتي على هيئة قصيدة نثر، والثالث عبارة عن سرد شعري مكثف، وكأنه نوع من القصيدة القصة، أو الشعر المنثور، وتقسم العناوين الفرعية هذه بين المقاطع والألوان الشعرية، وتأخذ جميعها سمتا سرديا لافتا، تتفاعل فيه الأنواع الشعرية كلها، وتعبر كل منها عن حالة لها مدلولاتها في وجدان عمار علي حسن، تتوزع بين الاستقرار الذي يراه في عالم القرية وتشير إليه القصائد التفعيلية بتواتر أوزانها، وبين عدم اليقين والضياع والأسئلة التي تتناثر دون إجابة لها، ويقع بين شقي رحاها الباحث عن حلم يحققه في المدينة، وتعبر عنه المقاطع النثرية التي يختم بها عمار كل قسم من أقسام الديوان، دون أن يكون هناك من إجابة لدى من ظن أن تراب الحقول يمكنه أن يحط على الأرصفة، ورغم تردد النداءات “احزم أمتعتك، وعد”، إلا أن الشاعر والذي لا نية لديه للعودة لمسقط رأسه والتخلي عن طموحاته، يدرك “أن الصوت الذي يسمعه يحدثه عن القبر” فهي الحالة الوحيدة التي يمكن أن يستعيده فيها تراب قريته.

ويعد “غبار الطريق” هو الديوان الثاني لعلي حسن بعد فراق نحو ثلاثين عاما أصدر فيها ثلاثة وعشرين كتابا أدبيا تتمثل في عدد من الروايات والمجموعات القصصية والمسرحية إلى جانب سيرة ذاتية سردية وخمسة وعشرين كتابا في مجال التصوف والنقد الثقافي وعلم الاجتماع السياسي.

وبين ثنايا القصائد التي يلتزم بعضها بالتفعيلة ويدور بعضها في سياق النثر، يمكن ملاحظة ملامح سيرة شعرية تتناثر بين ثنايا السطور لرحلة يسعى صاحبها لبلوغ طموحات استقرت في وجدانه حين كان طفلا في قريته الصغيرة، يحمل في مخيلته الكثير من المعاني عن ذلك القطار الحديدي الذي يتحرك بالمسافرين، وفيه بحملون باقة أحلامهم، التي قطفوها، ولازمتهم من أيام أول حرف كتبوه في كراساتهم، لكنهم أصيبوا بمرض نسيانها على الأرصفة الباردة، بعد أن تفرقت على أفاريز شوارع لا يعرفون أسماءها، وميادين أكلت عيونهم التي تجوب الدوائر الفسيحة، وتحط على بنايات تنيخ على آمال تموت تباعًا، بينما يقتلهم السؤال.

وفي القصائد يذهب قطار عمار “ورمزه الرئيسي” بركابه بعيدا عن أحضان ذويهم، بعضهم يعود بخفي حنين، والأخر تأخذه غياهب غربة يكابد فيها ويعاني من أجل لا شئ سوى المتاعب وفراق الأحبة، ويقول عمار في أحد مقاطع الديوان:

الحديد المدمدم يخطف الناس من مكان إلى مكان

ويعلن من بين فم دودة تقاوم آثار فأس غاشمة

مات الرفيق

لأنه استهان بموعد القطار.

يشار إلى أن “غبار الطريق” هو الديوان الثاني لعمار علي حسن بعد “لا أرى جسدي”. وقد صدرت للكاتب والشاعر له أربع عشرة رواية، وسبع مجموعات قصصية، ومسرحية، وديوان شعر، وسيرة ذاتية سردية، ومتتاليتان قصصيتان، وقصة للأطفال، وستة وعشرون كتابًا في الثقافة والاجتماع السياسي والتصوف، وتُعد حول أعماله الأدبية عشرون رسالة ماجستير ودكتوراه داخل مصر وخارجها، وكتبت عنها دراسات ومقالات نقدية عديدة، وترجمت بعض كتاباته إلى لغات عدة، وحصلت على جوائز كبرى عدة.
زر الذهاب إلى الأعلى