مسرح خيال الظل المصري… تطوره ونشاته وأشكاله واستراتيجيات استمراره

حاول الباحث الدكتور نبيل بهجت في كتابه “مسرح خيال الظل المصري” الصادر حديثا عن هيئة الكتاب المصرية ضمن سلسلة الثقافة الشعبية تتبع نشأته وتطوره عبر العصور المختلفة، وصولا إلى آخر الفنانين الشعبيين الذين ذكرتهم المراجع المختلفة منذ بداية فن التحريك وحتى الآن، كما سعى للوقوف على الأشكال المتعددة لمسارحه، وتلك التي كانت الدمى تقوم فيها بأدوار مؤثرة في الأحداث قديما وحديثا، مع تناول موضوع كل عمل ومغزاه، وتامل الفلسفة والاستراتيجيات الخاصة به كفن، والنظر في المؤثرات التي دفعته للبقاء في المجتمع وتناميه، وارتباطه بحياة الناس وقضاياهم التي تشغلهم والتعبير عنها ببساطة وأسلوب فكاهي جعلته قريبا من نفوسهم، ودفعت فنانيه لتطويره دائما عبر تداخله مع فنون أخرى شكلت روافد ومفردات جديدة ساعدت على استمراره وتناميه وانتقاله من جيل إلى آخر.
تضمن الكتاب ثلاثة فصول كان الأول بعنوان “المصطلح والمكونات والفلسفة” وارتكز الثاني على “المؤثرات وبنية النص” وفي الفصل الثالث تحدث بهجت عن “تطور تقنيات مسرح خيال الظل”، مع الاستعانة بشهادات عدد من فنانيه الذين قدموه عبر سنوات عديدة وتمسكوه به رغم ما كانوا يعانونه من إهمال وما يعانيه فنهم من تحولات في نظرة المجتمع له.
في العصر العباسي
ولفت بهجت إلى أن العرب عرفوا فن خيال الظل في العصر العباسي، أما عن وصوله إلى مصر فيعود فضله إلى الفاطميين في القرن الخامس الهجري، وقد وصل ولعهم به إلى حد أنهم اصطحبوه معهم في رحلاتهم البعيدة، وظل حبيس قصورهم لسنوات، ثم خرج بعد ذلك للشعب. أما عن نشأته فقد اختلف رأي الباحثين والنقاد في تحديد البيئة التي ظهر فيها، فمنهم من أعاده إلى الهند، ومنهم من قال إن مولده كان في الصين التي ازدهر ونما بها لدرجة أن فنانيه كانوا يقدمونه أمام جانكيز خان لتسليته والترفيه عنه.
وأشار بهجت إلى أن موضوعات خيال الظل تتنوع بين النقد السياسي، والاجتماعي وتصوير العلاقة بالآخر، وهي دائما تهدف للتسلية ويكون للترفيه نصيب وافر منها، وقد قدمت ابن دانيال نموذجا لهذا النوع من النقد، في عرض “طيف الخيال والأمير وصال” ودار حول توبة الأمير “وصال”، وبحثه عن الاستقامة والصلاح، وتقول قصته أنه حين شرع في الزواج فضل أن يتم ذلك عن طريق “الخاطبة” التي أوهمته أن عروسه جميلة، لكنه يكتشف ليلة الزفاف أنه تزوج بامرأة قبيحة، فيطلقها، ويذهب للحج، وتحمل هذه المسرحية، حسب رأي المؤلف، نقدا مباشرا لأسلوب الزواج وتكشف حيل الأمير الذي يسعى من خلال إعلان توبته لاستعادة مكانته بين الناس، بطريقة خاطئة، فبعد الهزيمة التي لحقت به على يد التتار، وبدلا من إعداد العدة لطردهم والانتصار عليهم، يذهب للزوج، ويبحث عن عروس، وهكذا يقدم عرض “خيال الطيف” الأمير في صورة متناقضة تعكس فساد معاييره واختلال منظومة القيم.
أنماط النقد الاجتماعي
أما مسرحية “عجيب وغريب” فتقدم العديد من أنماط النقد الاجتماعي من خلال عرض نماذج بعض اصحاب المهن الذين يحولونها إلى وسيلة للاحتيال على العامة، وإيهامهم أنهم قادرون على تحقيق المعجزات.
ويشير بهجت إلى أن مسرحيات ابن دانيال شهدت تطورا وتحولت من باب الخلاعة والمجون إلى النصوص الظلية لتتناول قصص الصراع اليومي للحصول على الرزق، وهو ما يبدو واضحا في عرض “الأولاني” من ملاحقات السلطة التركية للصياد المصري، ومحاصرة مصادر رزقه. وفي “العجائب” يتحول الصراع على الرزق بعد أن يقتل المقدم الصياد لمستويات أخرى أبعد تجاه الحياة والموت، من هنا يشير المؤلف إلى أن السلطة في عرض الأولاني دفعت بتضييقها على الناس إلى ان يتقاتلوا في عرض “العجائب”، أما في “الشيخ طالح وجاريته السر المكنون” فيقدم الفنان صورة من الفساد الاجتماعي من خلال نموذج أقرب ما يكون إلى شخصية “محفوظ” عبد الدايم” في رواية نجيب “محفوظ القاهرة 30” حيث يقدم البطل جاريته للقاضي ليجعله نائبا له، ويحوز منه على الكثير من المكاسب المالية والمعنوية، لكن ذلك لا يستمر كثيرا، حيث تكشف الأقدار أمره، أما في عرض “الشيخ سمسم” يقدم مؤلفها نموذجا للمرأة الفاسدة التي تتزوج رجلين في وقت واحد.
أما العلاقة مع الأخر فتتشكل في العديد من عروض خيال الظل وتظهر واضحة في لعبة “المنارة القديمة والحديثة”، و”حرب السودان”، و”المعركة بين النوبيين والعجم”، و”علم وتعادير”، حيث مثلت في الاولى أشكال الصراع زمن الحروب الصليبية، واتخذت من الاسكندرية مكانا لأحداثها، وقدمت وصفا مفصلا لمنارتها، أما الثانية فتعرض لدخول السودان في أعقاب دولة المهدي، وتحمل “علم وتعادير” مفاهيم ما يسمى بالصراع الناعم مع الآخر، وتستخدم الكثير من المناظر الاستعراضية لتوصيل رسالتها.
الاستراتيجيات التي اعتمدها
وارتبط استمرار فن خيال الظل عبر الزمن وعبوره من جيل إلى آخر بالعديد من الاستراتيجيات التي اعتمدها مؤلف عروضه حتى ينجو من محاذير وسلطة الحاكم والفقيه وقد لجأ إلى العديد من الوسائل والاساليب تحقيق ذلك، ومنها المراوغة والمناورة، والتستر، والمرونة، والواقعية، والسرية، والتكرار والتسيير حيث لا يعلم أحد من أرباب هذه الفنون متى يعمل وأين يكون ذلك، ولا حتى مقدار رزقه.
وهكذا، وكما يقول الباحث، يعتبر التسيير أحد مرتكزات الوعي لدى فناني العرائس والدمى، فكما تسيطر الأقدار على مقدراتهم ومصائرهم هم أنفسهم، ينعكس ذلك على مستوى الدلالة والمعنى لديهم حيث تظل الدمية في يد اللاعب منهم مسيرة لا خيال لها ملتزمة بإرادته، تتحرك كيفما يشاء.
