عاجلمقالات

حمدي عايدين يكتب : بين “مثقف الموافقة” و”المثقف المستقل”… معارك لا تنتهي

تأخذ العلاقة بين المثقف والسلطة أشكالًا متعددة، لم تكن يوما في صالح ديمقراطية الثقافة ولا حرية المثقف، وكانت مردوداتها دائما مرهونة برغبة صاحب السلطة في تجميل نفسه، وظلت، وطوال الوقت، معرضة مع التحولات التي تشهدها، لأن تتوقف، ولا تؤتي حتى ثمارها “المحدودة” مع أي غضبة من السلطة على المثقفين، أو أي تغير يطرأ على قناعاتها وسياساتها.

لكن ما هو الدور الذي يخشاه أصحاب السلطة حال قيام المثقفين الذين لا يدينون بالولاء إلا لأفكارهم ومبادئهم به، هذا الدور يمكن إداركه من تعريف الفلاسفة للثقافة نفسها، فهي طبقا للفيلسوف الفرنسي كانط “مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية”، وهنا يأتي دور المثقف الذي يعمل على تحقيق هذه الغايات، حيث يتمحور مفهوم “المثقف” على ركائز الكشف عن الحقيقة نقديا، ورد المظالم توخيا لقيم الحق والخير والعدل والجمال. ولا يختلف رأي المفكر الفرنسي جوليان بندا في كتابه “خيانة المثقفين” الصادر في 1927، كثيرا، فبعد أن كال لهم الاتهامات وهاجم الكثيرين منهم بعنف استنادا لمواقفهم حول قضية “دريفوس” والحرب العالمية الأولى، وتعاونهم مع النازية، وحماس بعضهم الأعمى مع الشيوعية، قال إن المثقف شخص متفرد قادر على قول الحق في وجه السلطة، فهو سريع الغضب، فصيح اللسان، شجاع إلى درجة لا تعقل، وثائر لا يرى أن ثمة سلطة دنيوية أكبر وأقوى من أن ينتقدها، ويوجه اللوم لها، وهو في موضع أخر “أقرب ما يكون إلى الصدق مع نفسه، حين تدفعه المشاعر الميتافيزيقية الجياشة والمبادئ السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة المعيبة الغاشمة”.

وفي رأي المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري يأخذ المثقف مكانة سبقه جرامشي إلى توضيحها، فهو الذي يلتصق بهموم وطنه وهموم الطبقات المقهورة والكادحة، إنه المثقف العضوي الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع ويواجه تحدياته المختلفة دفاعا عن الحق والحقيقة ورفضا لكل أشكال الظلم والقهر والتسلط في المجتمع”، أما عن دور المثقف حسب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد فهو أن يقول الحقيقة بوضوح تام، وبصورة مباشرة، وبأمانة تامة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فهو يرى أن المثقف لا يجب أن يهتم بما إذا كان ما سيقوله سيرضي من في السلطة أو سيسبب الإحراج لهم، أو يغضبهم، ما يعني أن المثقفين طبقا لدورهم هذا ليسوا جزءا من الحكومة، كما أنهم ليسوا جماعة من جماعات المصالح، ويركز سعيد في كتابه “صورة المثقف” الصادر عام 1993، وفي الفصل الأول منه، والذي يتخذ اسم الكتاب نفسه عنوانا له على تصورات عدد من المفكرين حول عمل المثقف وعلاقته بالمجتمع ودوره في مقاومة الفساد والظلم، ليصل في النهاية إلى تصوره هو نفسه حول ذلك الكائن الذي يدعى “المثقف” فيرى أنه إنسان يمثل بوضوح وجهة نظر ذات طبيعة ما، ويعبر بجلاء لجمهوره عن تلك الأفكار التي يمثلها، برغم كل أنواع العوائق. ولا يتوقف سعيد عند هذا الحد فله كتاب “المثقف والسلطة” صدر عام 2006، ويتحدث عبر فصوله عن علاقة المثقفين بالسلطة، وفيه يورد تصوراته حول تلك العلاقة وصورها المختلفة التي عبر عنها العديد من المفكرين والفلاسفة عبر مراحل مختلفة من التاريخ.

وفي الكتابين “صورة المثقف”، و”المثقف والسلطة”، يتجول سعيد بين أراء المفكرين وعبر الثقافات التي نشأوا في رحابها وتربتها، ليؤكد في الأخير على استقلال المثقف في وجه كل أشكال السلطات، وما تمارسه من وصاية واتباع وتدجين، لكنه يعود، وهو الذي سعى قدر طاقته ليعيش مثقفا حرا، ليتساءل عما إذا كان من الممكن وجود ذلك المثقف الفرد صاحب الصوت الحر الذي لا يخضع لوصاية أي سلطة. ففي رأيه يظل هناك ثمة خطورة في تمثيل المثقف الفرد كمثال بالغ حد الكمال، أشبه بفارس متألق، طاهر ونبيل جدًا إلى درجة تبعد عنه الشبهة المادية، مشيرا إلى أن لا أحد يقدر على اجتياز امتحان كهذا.   

أما الدكتور لويس عوض فقد عبر عن صورة المثقف حسب ما يراها في سيرته الذاتية “أوراق العمر”، وأفاض في الحديث عن تصوراته حول “المثقف التنويري” و”المثقف السياسي”، وسعى لتوضيح رأيه في دور كل منهما؛ وكان يرى أنّه لا وجود لأي خلاف، بين الأدوار التي يصنعها الطرفان في تدشين مفاهيم الحرية والعقلانية، بحسب موقع كلّ منهما، كما سعى عوض لدحض المحاولات التي حاولت تشكيل حدود فاصلة بينهما؛ لأنّ الدور السياسي للمثقف، واستحقاقاته في مواجهة السلطة السياسية، وانتزاع حقوق الناس بالكلمة والوعي والمعرفة، لا يتعارض في رأيه مع الدور التنويري.

وفي هذا الأطار لا يمكن إغفال تعريف الدكتور زكي نجيب محمود للمثقف ودوره والذي أفرد فصلا كاملا للحديث عنه في كتابه “هموم المثقفين”، حيث يقول إن “المثقف الذي أردته، إنما هو إنسانٌ بضاعته أفكار، سواء أكانت تلك الأفكار من إبداعه هو، أم كانت منقولة عن سواه، ولكنه آمنَ بها إيمانًا أقنعه بأن يحياها، ثم لا يقتصر على أن يحياها هو بشخصه، بل يريد أن يُقنِع بها الآخرين ليحيوها معه، والأرجح أن تكون هذه الأفكار من الصِّنف الذي يغيِّر الناس نحوَ ما يُظَنُّ أنه الأفضل، على تفاوتٍ في ذلك بين فكرة وفكرة؛ إذ إنه من الأفكار ما مِن شأنه أن يغيِّر وجه الحياة على نطاقٍ واسع، ومنها ما ينحصرفي جانبٍ ضيِّق من جوانب تلك الحياة.

من هنا يتجلى رأي زكي نجيب محمود في المثقف، حيث يراه  “من طراز ديمقريطس الذي قال إنه يفضِّل لنفسه أن يظفر بفكرةٍ تتقدَّم بها الحياة، على أن يظفر بمُلْك فارس؛ وهو من طراز الجاحظ الذي كان بطريقةِ تفكيره وتعبيره، نقطةَ تحوُّل للثقافة العربية كلها من وجدان الشاعر إلى عقل الناثر؛ وهو من طراز المثقفين الذين تمثَّلوا في عصر التنوير في فرنسا إبَّان القرن الثامن عشر، وفي جماعة إخوان الصفا إبَّان القرن العاشر؛ وفي الجمعية الفابية التي عملت بفكرها في الحياة الإنجليزية منذ أوائل القرن الماضي حتى غيَّرت مجرى تلك الحياة تغييرًا عميق الأثر، وفي الحركة الفكرية العارمة التي أشعلت جذوة النهضة في مصر خلال مرحلة العشرينيات من القرن نفسه.

وهكذا تأتي كل التعريفات، التي وضعها فلاسفة ومفكرون أمثال جرامشي وجوليان باندا وجان بول سارتر وإدوارد سعيد والجابري ولويس عوض وطه حسين، وزكي نجيب محمود وغيرهم، لتؤكد على استقلال المثقف في وجه كل أشكال السلطات، وما تمارسه من وصاية واتباع وتدجين.

هذا الدور الذي دار حوله عدد كبير من المفكرين وسعوا لإبرازه للمثقف والتركيز عليه، وقاموا بتوجيه نقدا وهجوما حادا ضد من حادوا عنه من المثقفين في مجتمعاتهم هو ما تسعى السلطة خاصة تلك التي تتجاوز حدود القانون لإبطاله وإيقافه، وحيت تعمل على عزل المثقف الحقيقي عن قضايا مجتمعه، وإجباره على التقوقع في شرنقة تختارها هي له، أو تدفعه إليها، كما تجبره على التفكير طويلا قبل أتخاذ أي مواقف أو ممارسة حريته في الكتابة عما يراه أو يشعر به، وتجعله يحصر نشاطه الكتابي فيما يضمن له العيش في أمان بعيدا عن البطش والتنكيل، وهي خطوة أولى، تتحضر بعضها خطوات، لاتهامه بعدم الانتماء والفشل، ثم السخرية منه، وزرع حالة من عدم الثقة في نفسه، قد تصل إلى مرحلة جعله فائضا عن الحاجة في نظر المجتمع، كائنا بلا دور حقيقي.. لا قيمة له ولا خير يرجى منه.

وحين يحدث هذا، ويصبح ماثلا للعيان، ويصير المثقف شخصا تائها لا يلفت نظر أحد، تنشط، وبشكل دائم، السياسات والخطط والممارسات المناهضة للثقافة بوصفها مصدر من مصادر الوعي، كما توجه السياسات  العاملة على التقليل من قيمة التعليم نفسه، ومدح الجهل والفهلوة وإزكاء حالة من التعتييم والضبابية، وتغييب العقل، ونشر الأفكار الحيادية التي تدعو للخمول الروحي والعقلي، وتحول الفرد إلى كائن غير راغب في البحث أو المعرفة، ليجد المثقفين في النهاية أنهم غير قادرين على رفع أصواتهم بما يرون أنه ضروري وهام لحياة مجتمعاتهم، أو ما يدفع إلى بَذْرِ وتنمية أجيال تكون قادرة على مواصلة الرحلة الحالمة من أجل حياة أفضل.. كريمة وأمنة تحكمها قيم الحرية والمساواة والعدالة وتؤمن للأجيال القادمة مستوى مضمون من التطور والتقدم نحو الأمام.

 وفي ظل هذه الأجواء المضادة للثقافة الحقة، يأتي دور مثقفي السلطة المعرفون في وسائل الإعلام بـ “مثقفو وسائل الإعلام” ومن خلال استغلال الطابع المحافظ في بعض المجتمعات خاصة العربية، يركبون الموجه، ومن أجل تسويق دعاواهم المزيفة يستخدمون تعبيرات مثل سقوط المثقف، وموت الناقد وعدم جدوى الثقافة في مجتمع فقير. يستخدمونها منزوعة من سياقاتها، وفي سياقات غير التي قيلت فيها، وهي في الغالب ذات أهداف غير بريئة، تسعى لتشويه “الدور والمكانة والوجود والمعنى النبيل للثقافة وحاملي مشاعلها”، من أجل العمل على سيادة أوضاع بعينها تم استخدامهم من أجل الدفاع عنها، وفرضها على الواقع فرضا، فلا يخشى أصحاب هذه الدعاوى الثقافة إلا بوصفها معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، تعرقل حال انتشارها استمرار المكاسب ونمو عمليات ورودها.

فالمنتفعين في زمام السلطة ودوائرها، لا يرون خطرا على استمرار حصد مكتسباتهم إلا في انتشار الثقافة والمعرفة، التي قد تقود إلى البحث وإثارة الأسئلة، حول ما كان وما يجب أن يكون، هذا من جهة، من جهة أخرى لا يرى أصحاب السلطة من مخاطر على استمرارهم في السلطة سوى سلطة المعرفة وسلطة الثقافة والعقل، لأنهم في حال كهذا لن يستطيعوا ممارسة أي نوع من الهيمنة أو نشر وجهات نظرهم الضرورية لاستمرار سياساتهم على أرض الواقع.

أما عن عداء السياسي للثقافة والمثقفين، فهو ليس وليد أزمنة قريبة، ولا قاصر على مجتمعات محكومة بصيغ دكتاتورية فقط، ولا يقتصر على عالمنا المنكوب وحده، لكن هناك جذور للعداء السياسي ضد المثقف يمكن رصدها على أصعدة كثيرة، وقد بدأت بالسخرية منه وتحقير دوره، ثم حصاره وتجريمه في المراحل التي كانت السلطة تستشعر فيها خطرًا على استمرار سياساتها، أو على نمو مكاسبها وتطور مكانتها، جراء أفكاره ووجهات نظره التي لا تتوافق معها، فهو مثلا من وجهة نظر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الرابع والثلاثين دوايت أيزنهاور، والذي كان جنرالا سابقا في الجيش، “شخص يستخدم كلمات أكثر من اللازم لقول أشياء أكثر مما يعرف”، لكن وجهة النظر هذه تغيرت كثيرا بعدما أدرك الساسة الأمريكيون قيمة الثقافة والإبداع والفكر ودورها في مقاومة الشيوعية، كان ذلك عام 1947، عندما أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية جهاز المخابرات ليكون مسؤولا عن الجانب الثقافي في الحرب الباردة، وقد قام بدروه بإنشاء العديد من المراكز الثقافية في الكثير من بلدان العالم ليكون دورها تقديم ونشر الثقافة وتغيير النموذج الشائع عن العنصرية الأمريكية.

وبينما تقدم العديد من بلدان العالم المثال تلو الأخر على أهمية الثقافة حتى وهي تخوض حروبها وصراعاتها، نجد أنه  كلما استحضرت دوائر رسمية أو مؤسسات ثقافية تابعة لسلطة ما في بلادنا قضية تخص حالة الفكر والثقافة وتطور المجتمعات، وتبحث حالات ترديها المختلفة، ألقى باحثون خارجون من حظائرها الرسمية بالمسؤولية على المثقف وأهالوا التراب على دوره، ثم أعلنوه موته، وساروا في جنازته،  وهم يرددون أحاديث تنتقد دور المثقف العضوي في المجتمعات، وتشوه دوره، وهو في الحقيقة غير موجود بالفعل، وما عاد نموذجه يلفت النظر من الأساس أو يمثل شيئا في الواقع.

هذه الحروب ضد الثقافة والمثقفين ما زالت تحدث، وعلى مدى سنوات، وتتم بتحالفات مضرة مع جماعات مصالح، ويظن البعض من أصحابها أنهم بدعاواهم التي بذروها في فضاء الثقافة العربية سوف يحصدون ثمارها بانتاج تشكلات قوية قادرة على أن تحل محل تلك الكيانات الحقيقية التي تؤمن بدور الثقافة، وتعتقد أنه لا يوجد شئ أسمه موت النخبة، أو سقوط المثقف لكن الأكيد أن هناك عمل دائب وسعي مستمر لإقصائه، وإدخاله في حالة من التضييق والحصار المستمر، حتى لا يكون له دور في تنوير يخشاه أصحاب المصالح، ويعملون جاهدين على إعاقته وتشويهه وتسفيه دوره حتى يستمرون في مواقعهم، وتحقيق ما يرغبون ويسعون لتحقيقه من مكاسب.

أما أولائك الذين يمشون في ركاب من يدفع لتزييف الوعي، وحرف بوصلته عن اتجاهها أو يستسلمون لأطماع شخصية لم يفكروا يوما في كبح جماحها، فكثيرون ويمتد سلسالهم في جغرافيا الكثير من المجتمعات, وقد كشفت سيرتهم وتطلعاتهم العديد من الكتب والمؤلفات، مثل كتاب “المثقفون” الذي لم يترك مؤلفه الكاتب الانجليزي بول جونسون مفكرا ولا كاتبا ولا مبدعا عظيما هنا أو هناك إلا وكشف أسوأ ما فيه، هذا على المستوى الغربي لكن هناك كتابات كثيرة فضحت هذا الجانب من مثقفي السلطة والمتعاونين معها، في العديد من المجتمعات العربية ويكفي أن نذكر كتاب واحدا في هذا المجال وهو من تأليف الأديب سليمان فياض وعنوانه “كتاب النميمة.. نبلاء وأوباش”.  

ولكن كيف يتقي المثقف إغراءات السلطة وسيف معزها، هنا يضع المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد روشتة يراها ناجعة، يستقي حيثيتها بالطبع من المجتمع الأمريكي الذي عاش فيه، ومارس فيه دوره كمثقف حر، ويؤكد فيها على أهمية هامشية المثقف ونزعة الهواية لديه مما يسمح له بالابتعاد عن الاحترافية الروتينية والتخصص الضيق وأخطار الانجراف إلى أحضان السلطة. ويساعده ذلك أيضًا في توسيع هامش المناورة ويسمح له بطرح الأسئلة الصعبة ويزيد من استقلاليته في وجه السلطات.

 

زر الذهاب إلى الأعلى