إبداعات عربيةعاجل

الغربة.. الثورة.. الحكم والسياسة في الرواية اليمنية الحديثة

أحمد عبد الحافظ

دراسة التحولات الفنية للرواية اليمنية الجديدة التي تنتمي إلى الألفية الثالثة، وما شهدته من تطور على المستويين الكمّي والنوعي، كانت أهم مرتكزات كتاب “الرواية اليمنية في الألفية الثالثة.. التقنيات السردية ورؤية العالم” الذي صدر حديثا للأديبة والناقدة اليمنية سهير رشاد السمان عن دار النابغة القاهرية.

وسعت السمان في الكتاب إلى دراسة تقنيات السرد في الرواية اليمنية وأساليبها التي اتخذت تشكيلات مختلفة في بنائها الفني تكشف عن رؤية كُتّابها، وتشاركها في واقعية قضايا الإرهاب، والغربة، والثورة، والحكم والسياسة، فضلا عن القضايا الإشكالية التي انتجت ذلك، بما فيه من مخزون ثقافي واجتماعي وديني.

اعتمدت السمان على عدد من الدراسات النقدية العربية والمترجمة، وكان أهمها خطاب الحكاية لجيرار جينيت، ما اتاح لها وهي تدرس “الإيقاع الزمني في رواية “أغيلاس” للأديب عبد الرحمن منصور، منهجيةً علميةً لتحليل بنيتها الزمنية وما تحفل به من استرجاع وحذف وتواتر ووقفات وصفية.

وفي الفصل الثاني “الراوي وانفصام الذات في “تراي تشيزفرونيا” للكاتب جمال الشعري تناولت السمان تقنية الراوي والتي استخدمها لتحقق مستوى دلاليا عميقا، يبرز ما تحمله الرواية من قضايا شائكة، تتشكل خلال انفصال الذات لثلاثُ رؤى سردية، وتسهم في إبراز الجانب السيكولوجي لمجتمع يعاني من الانفصام.

وتلقي تفاعلات الأحداث في “تراي تشيزفرونيا” الضوء على أزمة الذات وتشظيها في ظل واقع الحرب، ويتوقف الكاتب على مشاهد حقيقية ومتخيلة لآثارها في اليمن، ورغم أنها مشاهد قليلة إلا أنها تبدو مختزلة لما يحدث، وينأى المتخيل الروائي عن تسريد وقائعه؛ لأنه أكثر جنونًا وسريالية من المتخيل نفسه، حيث تسبق فيها المشاهد الواقعية المعيشة حدود عبقرية التخييل في جذبها إلى داخل المتون الروائية؛ ولأنه لا يمكن أن يقال كل ما يجب قوله عن آثام الحرب وبشاعتها، من هنا لجأ الكاتب إلى اجتزاء تفاصيل صغرى دالة إلى داخل الرواية، استطاع من خلالها تعميق الإحساس بمأساوية الواقع، وتخيل جنونه وآثاره العبثية.

وفي الفصل الثالث “الفضاء في الرواية اليمنية” قامت السمان بدراسة روايتي “نصف إرادة” للكاتب هشام المعلم، و”حصن الزيدي” للكاتب محمد الغربي عمران، واعتمدت في تحليل الفضاء، على شعرية المكان وسيميائيته.

تحدثت عن الأماكن والفضاءات في الروايتين- ورأت أنها تكاد لا تخرج من حيث الوظيفة والدلالة عن مفردات “الداخل، والخارج”، و”أماكن الإقامة والتنقل”، و”القرية والمدينة”، والتي تتفرع منها ثنائيات وتقاطبات فرعية أخرى.

الرواية الجديدة بين التشكيل والرؤية

وخصصت السمان الفصل الرابع “الرواية اليمنية بين الرؤية والتشكيل” للحديث عن رؤية فنية تشكلت من خلال البناء السردي للواقع الاجتماعي وخلفياته الثقافية والسياسية، وربطت بين البنية الروائية بشكلها التقني وبين البيئة الثقافية التي تتصل بالعملية الإبداعية، لتفسر كيف استطاع الشكل الفني البنائي للروايات اليمنية أن ينتج الرؤية الخاصة بالمؤلف تجاه الواقع، والتي تكاد تعتمد على ثيمة واحدة هي التعثر التاريخي للبلاد، واصطدام الشخصيات بواقع لا يزال يتخبط بمرجعياته المتعددة، كالعادات والتقاليد والدين والبنية الاجتماعية هناك، والذي يتعرض للخلخلة أثناء تصاعد الأحداث والحوار بين الشخصيات، وقد ظهر هذا واضحا في رواية “أغيلاس” التي تشتغل على موضوع الإرهاب، وتبرز الخلفيات الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، وتظهر الإنسان اليمني قلقلا تجاه كل تغيير، يدور في حلقة مغلقة، وفضاء لا مركزية له.

وضع المرأة والمهمشين

وذكرت السمان أن الرواية اليمنية تطرقت لوضع المرأة، والمهمشين، والأقليات، وخاض الكثير منها في التابوهات، مثل “علي المقري” وروايته “حرمة” ووجدي الأهدل في “قوارب جبلية” ونبيلة الزبير ب”زوج حذاء لعائشة”. وهذه المؤشرات تندرج ضمن التطور والتحول في الفن الروائي، والوعي بالكتابة القصصية، وتقنياتها الحديثة.

واهتم كتاب الألفية الثالثة، حسب السمان، بجماليات الموضوع وأسلوب الكتابة، والتقنيات الحديثة؛ لإخراج فن روائي جديد، وجاءت الكتابة الروائية في زمنَ الحرب استجابة مباشرة لرفض دمويتها وآثارها، لتمثل السلاح الإبداعي المقاوم للموت والتغييب والغربة والتشرد، وذلك من خلال التنوع في تشكيلاتها السردية.

وانطلقت السمان في دراستها من السرديات البنيوية، التي تهتم بتحليل تراكيب القصة والعلاقات الداخلية لها وأساليب بنائها، وقامت بدراسة الجانب التقني ومكونات الحكي، من أجل كشف أسرار النظام الداخلي للأعمال السردية، ومكوناتها “الزمن، والراوي، والفضاء الداخلي”.

الغربة.. الثورة.. الحكم والسياسة في الرواية اليمنية الحديثة

 

قسمت السمان السرد الروائي اليمني في الألفية الثالثة إلى فترتين، بدأت الأولى مطلع الألفية الثالثة وامتدت إلى ما قبل أحداث الربيع العربي في 2011، أما الثانية فتشكلت فيما بعد أحداثه، وتتصدر قائمة روايات مطلع الألفية، “الملكة المغدورة”، و”دملان”، و”عرق الآلهة”، و”طائر الخراب”، لحبيب عبد الرب سرويو و”إنه جسدي” لنبيلة الزبير، و”طعم أسود رائحة سوداء”، و”اليهودي الحالي”، و”حرمة” لعلى المقري، الذي رأته السمان يمثل حالة ثريّة يمكن الارتكاز عليها من خلال سرد التفاصيل المختلفة وغير المرئيّة في المجتمع، بهدف كشف مشاكل الذات المغايرة في الهوية والجندر والطبقية.

الانتماء والهويّة في روايات الحرب والربيع العربي

وتظهر فكرة الانتماء والهويّة واضحة في رواية “أنف واحدة لوطنين” لسامي الشاطبي، التي تطرح موضوعا شائكا تعاني منه فئة المولدين في اليمن وهي الفئة التي تختلط دماؤها بين اليمني والأثيوبي. وهنا تنحو روايات الألفية الثالثة منحًى جديدا في مواضيع سردها، استطاعت خلاله أن تتحرر من قيود التابوهات المفروضة على واقع الكتابة، وكان من ضمن الكتاب الذين توغلوا في هذه المنطقة وجدي الأهدل في أعماله “قوارب جبلية”، “وبلاد بلا سماء”، و”فيلسوف الكرنيتة”، و”حمار بين الأغاني”، و”الغرب يعمر انفي”.

وهناك أعمال تندرج في سياق تطور الوعي بالكتابة الروائية النسائية في اتصالها بواقع المرأة ومشاكلها الخاصة، مثل “حب ليس إلا” و”عقيلات” لنادية الكوكباني، و”امرأة ولكن” للمياءالإرياني، و”زوج حذاء لعائشة” لنبيلة الزبير، و”تابوت امرأة” لسيرين حسن، ومن بين أسئلة الرواية الكبرى كانت مآلات ثورة التغيير في اليمن، وتناولتها نادية الكوكباني في “سوق علي محسن” ورصدت خلال أحداثها يوميات الثورة الشبابية وتفاصيلها من خلال عينيْ طفلين من المهمشين، تتداخل أحلامهما الصغيرة بأحلام الشباب الثائر في ساحة التغيير. وتعتبر الرواية اختزال سوسيولوجي للثورة وتحولاتها بعد انضمام الأحزاب والكيانات السياسية والقبلية والعسكرية الانتهازية.

رواية "ثورة مهيوب" تميل الأديبة لمياء الإرياني

وفي رواية “ثورة مهيوب” تميل الأديبة لمياء الإرياني، إلى تركيز السرد، من خلال شخصية “مهيوب” الذي يعيش فوق رصيف بناية، نائما داخلَ كيس يرقب من خلال رصيفه التغييرات والتحولات التي تمر بها المدينة وطبقاتها، وحين يقرر اللحاق بالثورة يرى ضابطا تخصّص في نهب الأراضي والممتلكات يلتحق بالثورة، فيقرر العودة إلى رصيفه، وكيسه الذي يشكل ترميزًا لغطاء من العزلة، والتي سيطرت على الواقع عقب فشل الثورة.

سرد ممزوج برائحة البارود

أنتجت الفترة الثانية من الألفية الثالثة التي حددتها السمان “بما بعد أحداث 2011” ودخول اليمن معترك الحرب أعمالا ظهر السرد خلالها ممزوجا بأصوات القذائف وروائح الدم. وساعيا لكشف أوجه المحنة والأسباب التي أدت إليها، وإثارة مجموعة من التساؤلات عن التهاب الواقع ونتائجه السلبي، وقد تناول بعض الكتاب بجرأة خلفيات هذا الانفجار، على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي، ولجأ آخرون إلى تناولها بحذر، مستعينين بخطاب استعاري أكثر مرونة في التفسير، مثل رواية “نزهة عائلية” لبسام شمس الدين، والتي تناولت فكرة انتهاك الأعراف، وسيطرة العراك القبليّ، كما في رواية الغربي عمران “حصن الزيدي”.

رواية "حفيد سندباد" لحبيب سروري

وفي رواية “حفيد سندباد” لحبيب سروري، يجد الراوي القادم من فرنسا نفسه أثناء إجازته في عدن الجنوبية في ورطة الحرب المشتعلة بين جيش نظامي تسانده مليشيات دينية شمالية، وبين شباب مدينة عدن المقاوم الذي لا يمتلك غير البنادق البسيطة. وتصف الرواية صورة الحرب الدموية بأسلوب لا يخْلو من السخرية. أما رواية “أرض المؤامرات السعيدة” لوجدي الأهدل، فتضع سؤالا كبيرًا حول قضية الفساد، وتكشف عن بنْية كامنة في تفاصيل المجتمع الذي تسوده منظومة علاقات اجتماعية وسياسية سلبية.

ويقدم وليد دماج في روايته “أبو صهيب العزي”، ظاهرة الإرهاب والتطرف الديني، مستخدما تقنية التراوح السردي بين الحاضر والماضي مستعينا برؤية تحليلية لا تفصل بين ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي في تنامي الظاهرة الإرهابية، ولا تستبعد دور المجتمع الأقليمي والدولي في تفشيها، يخضعها للمحاكمة والمساءلة، ويشير إلى أنها أدت إلى إعادة إنتاج الفكر السلالي بشكله الخميني، واجتياحِ ميليشيات الحوثي صنعاءَ، وبروز الوعي السلالي والنزعات الطائفية، وتغذية التناقضات الفكرية والمذهبية في العقدين الأخيرين، واعتقال الصحفيين واتخاذهم دروعًا بشرية في المواقع العسكرية، وقمع الحركة المدنية المناهضة للحرب والاعتقالات والاختفاء القسري، وتهريب المخطوطات والآثار.

ومن بين الأعمال الحديثة التي خاضت في أوجاع الحاضر، تبرز رواية “بلاد القائد” لعلي المقري، و”فاكهة للغربان” لأحمد زين، ففي الأولى وباستخدام “لغة سردية تعتمد المفارقة والسخرية والتهكم يسعى المقري إلى اكتشاف عالم الدكتاتور الطاغية وجنونه، وتفاصيل محيطه الخاص، وقصة سقوطه التراجيدي، وانفراط عقد نظامه وحاشيته، في حبكة سردية تجعل القارئ يستمتع بلذة الاكتشاف.

وينفتح السرد في رواية “فاكهة للغربان” لأحمد زين على حقبة بالغة الحساسية من تاريخ الجنوب، حين كانت مدينة عدن تستقطب الشيوعيين والحركات اليسارية العربية، في السبعينات ومنتصف الثمانينات، وهي حقبة مفخّخة بالصراعات والمؤامرات والدسائس، انتزعت فيها المدينة من الفضاء الكوزموبوليتاني أو من اليوتوبي االكولونيالية قبل الاستقلال، إلى مدينة أخرى بعد الاستقلال، لم تنجح في العبور إلى اليوتوبيا الاشتراكية

 

لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي

زر الذهاب إلى الأعلى