إبداعات عربيةعاجل

“مدرسة الحمقى”… رواية روسية تجسد تأثيرات المجتمعات القمعية

 

أحمد عبد الحافظ

دشنت رواية “مدرسة الحمقى” تأليف الروائي ألأكسندر سوكولوف لمرحلة جديدة في النثر الروسي، وذلك من خلال تعبيرها عن إمكانات وثراء لغة اقترنت بأسماء عدد من كبار الأدباء والمبدعين هناك أمثال تشيخوف وديستويفسكي وبوشكين، وينظر الباحثون في الأدب إلى “مدرسة الحمقى” باعتبارها “القصة الأكثر سيريالية في الأدب الروسي الحديث”.

الرواية صدرت نسختها العربية حديثا عن المركز القومي للترجمة، قدمها عن لغتها الأصلية الدكتور محمد نصر الجبالي، وهي واحدة من روائع الأدب الروسي في القرن العشرين، ويجسد سوكولوف من خلال أحداثها الوجه الآخر للمجتمعات القمعية التي لا تمنح أبناءها حرية في التعبير عن أرواحهم، وتجعل منهم أفرادا يعيشون عوالمهم في دواخلهم، ويتحاورون مع أنفسهم، وبصوت داخلي لا يمكنه الخروج إلى العالم، فلا أحد يقدره أو ينصت إليه.

يسرد المؤلف أحداث الرواية على لسان صبي يعاني من انفصام في الشخصية، تسيطر عليه حالة من الدهشة والذهول من تنوع العالم المحيط به، لكنه رغم ذلك مثل كل المراهقين يكره أسوار المدرسة، ويحب النساء والطبيعة الجميلة الخلابة، ولديه الكثير من الطموحات التي يأمل أن تتحقق.

الكاتب ألكسندر سوكولوف
الكاتب ألكسندر سوكولوف

عقلية بطل رواية “سوكولوف ومعاناته مع العالم الخارجي

وخلال الأحداث يركز “سوكولوف” على البطل الذي تكونت لديه من جراء إصابته الذهنية تصورات غير مألوفة عن العالم وعن الزمن، نتيجة إصابته بشيزوفرنيا حادة. ويحكي سولوكوف أحداث الرواية على لسانه فيما يشبه المونولوج الداخلي، وخلال أحداثها يتذكر الصبي، وهو مجهول الاسم، طفولته وحياته بالمدرسة، ويصف العالم المحيط به، ويعلق عليه، بينما يختلط لديه الماضي بالحاضر، ويستعصي عليه فهم ما يدور حوله من مجريات الحياة.

وهكذا تتحرك الأحداث في الرواية من خلال ما يدور داخل عقل البطل “الصبي” وحواره مع “أناه الأخرى”، وهو يصف معاناته التي ترتبط بذكرياته، وحياته في القرية التي تقطنها عائلته، وما يحيط بها من ربوع خضراء، ويحكي عن “بافل نورفيجوف” أستاذه مدرس الجغرافيا الذي يكن له تقديرا خاصا، ربما كان الوحيد الذي استطاع أن يتعاطي معه بقلبه في العالم الذي يحيط به، كما يتحدث عن ابنة البروفسير التي تدعى “فيتا اكاتوفا” والتي انجذب لها البطل بمشاعره الخاصة، لكن المدهش في “مدرسة الحمقى” أن كل ما يأتي في تفاصيلها من وقائع تتنامى، تأتي كأنها نوع من التهويمات، تحدث فقط في عقل الطفل محرك الحدث، ففيها يختلط الواقع بالخيال، وتتداخل الأزمنة والأماكن.

استغل سولوكوف الإعاقة الذهنية لدى بطله في جعل كل ما يحيط به يبدو ضبابيا وغائما، فلا يوجد بالنص شيء أو خبر محسوم ونهائي ومؤكد وصادق، فالواقع يفقد ملامحه المعتادة، ويبدو وكأنه يرى لأول مرة، وهذا المظهر الواضح في الرواية لجوء “سولوكوف” جاء نتيجة اللعب بالألفاظ وقيام المؤلف بتحريك مقصود وممنهج في بنية الأحداث، وقد نتج عن ذلك الكثير من الأشياء غير منطقية، والمدهشة في الوقت نفسه، والتي ظهرت في العلاقات المتبادلة بين الأبطال المحيطين بالصبي سواء كان والده الذي يعمل قاضيا، أو أمه التي تتحكم فيه بطريقة مرضية أو أستاذه مدرس الجغرافيا أو طبيبه في مستشفى الأمراض العقلية التي كان يتردد عليها أيضا، فضلا عن الفتاة التي يتمنى الزواج منها حيث تعتمل في روحه مشاعر حب لا تجد لها مكانا في أرض الواقع.

رواية “مدرسة الحمقى” رحلة لفهم العقلية البشرية

“مدرسة الحمقى” هي الرواية الأولى لسوكولوف، وتوصف من قبل النقاد بكونها واحدة من أهم الأحداث الفارقة في الأدب الروسي في القرن العشرين، وقد نالت تقديرا كبيرا من المهتمين بالشأن الإبداعي بسبب جدية موضوعها وسعي كاتبها للولوج الى الأصول غير المرئية للواقع، فضلا عن موهبته في تصوير العلاقات المتبادلة بين الأبطال وبين الأحداث، وهي ربما واحدة من الروايات الأكثر تعقيدا من الناحية اللغوية، والتي يتحدث فيها البطل بحكمة الأحمق التي يصعب أن ينالها الأذكياء.

الواقع والخيال في رواية “مدرسة الحمقى”

صياغة سولوكوف أحداث روايته وجعلها تدور في خيال ورأس بطله فقط، ربما كان وراء تعزيز فقدان صلتها بالواقع، فلا أحد قادر على الجذم بما إذا كان كان ما يقوله الراوي يحدث في الآن، أو وقع في الماضي، أو يتخيله البطل ويراه أمامه في المستقبل، وهذا بالطبع نتيجة طبيعية لحالة القمع وعدم التحقق التي عاشها الطفل في “مدرسته”، وقد صورها بحيث تبدو واحدة من المؤسسات القمعية بداية من مديرها “بيريُّو”، ونهاية بطرق التدريس التي يتم تطبيقها بين جدرانها، وهي مصصمة، في الغالب، في تلك المجتمعات بحيث لا تعطي مساحة لظهور إبداعات الأطفال المحصورين هناك، فلا يسمح لهم بالانطلاق بحرية ولا تجد مبادراتهم الفردية طريقة للخروج إلى النور والتعبير عن نفسها.

حياة الكاتب ألكسندر سوكولوف ورحلته الأدبية

ولد ألكسندر سوكولوف في العاصمة الكندية “أوتاوا” عام 1943، وغادر إلى الاتحاد السوفيتي بعد ترحيل والده، الذي كان ملحقًا عسكريًا بالسفارة السوفيتية، لاتهامات بالتجسس، وبعد عودة والده درس سوكولوف الصحافة في جامعة موسكو الحكومية، لكن المجتمع وقتها لم يرق له، فقام بعدة محاولات للهروب من البلاد، عبر الحدود الإيرانية، وفي عام 1975، سمحت له السلطات السوفيتية بالمغادرة، واستقر في الولايات المتحدة في العام التالي بعد نشر “مدرسة الحمقى”، خارج روسيا، حيث لم تجد طريقها للنشر هناك إلا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وما زال سوكولوف يعيش في أمريكا، وقد حصل على جائزتي “أندريه بيلي” المرموقة عام 1981، و”بوشكين للأدب” عام 1996، وصدر له عدد من الكتب والروايات منها “أستروفوبيا” و”بين الكلب والذئب” و”في بيت المشنوقين”.

 

لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي

زر الذهاب إلى الأعلى