لماذا انحسر النفوذ الفرنسي في الغرب الإفريقي؟

تقرير: إيهاب أحمد
في ظل عالم يموج بالتحولات المعقدة والمتسارعة، ومحوره الأساسي هو صعوبة استمرار الترتيبات التي شهدها العالم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي من هيمنة أميركية غربية مطلقة، وفي الوقت نفسه تأزم وتعقد مولد ترتيبات جديدة مع اتساع حرية حركة الأطراف والقوى الكبرى والمتوسطة التي تتيح لها تدخلات أوضح وأحياناً تتصدى للقوى الكبرى.
ها نحن نرى المراجعات والتحولات الواسعة الجارية، التي في ظلها انضمت ساحة غرب إفريقيا إلى بؤر النزاع في الشرق الأوسط وأوكرانيا، لتصبح حلقة أخرى من حلقات الصراع المشتعلة لإعادة ترتيب الأوضاع الدولية.
وبمتابعة الدور الفرنسي الذي كان دوما مذبذبا إلى حد أن وصفه بـالطريق المتعرج، لأنه يسير تاريخيا وفق هذا النهج ربما منذ الثورة الفرنسية وحتى خلال بناء مستعمراتها ثم فقد هذه المستعمرات، فذلك ما يظهر جليا في العقود الأخيرة ليطرح السؤال هو كيف استطاعت فرنسا الإبقاء على حضور دولي ومكانة على رغم هذا التراجع المستمر؟
فقد فقدت السياسة الفرنسية مكانتها في المنظومة الغربية بشكل أسرع خاصة بعد رحيل الرئيس جاك شيراك، لكن هذه المرة فإن الأمور تنحدر بوتيرة أسرع بكثير من ذي قبل.

موقف أمريكا من تواجد فرنسا بالنيجر
فبملاحظة الموقف الأميركي المتباعد من الاندفاع الفرنسي، سواء في التعامل مع انقلاب النيجر أو في تطورات الجابون، فنرى تفضيل واشنطن الحوار والدبلوماسية ولا تشجع التدخل العسكري بالرغم من إدانتها للانقلاب العسكري، كما حرصت على إيفاد سفيرة جديدة كان موعد تسلمها عملها مقرراً من قبل ولم تحاول تأخيره، في رسالة بالغة الدلالة يبدو أن كل الأطراف المعنية تفهمتها.

والمغزى واضح فمع وجود عسكري أميركي في النيجر إلا أن قادة الانقلاب لم يطلبوا مغادرته، لا هو ولا الوجود الأوروبي الآخر، تفسير ذلك هو أن واشنطن مستعدة للتخلص من عبء فرنسا مقابل استمرار النفوذ الغربي أو الأميركي تحديداً، ولتستكمل بهذا ما ذكرناه من قبل في موضع آخر من إزاحة واشنطن لفرنسا من صفقة الغواصات الأسترالية منذ أشهر عدة.
معارك فرنسية استعمارية بدول عربية
كل هذه الخلفيات تجعلنا نميل لاعتبار هذا التآكل للدور الفرنسي الحالي هو تجسيد لسياق وتحول تاريخي في إفريقيا يسير بخطوات أسرع، وأن مشروعات الشراكة والشعارات التي كان يرفعها الرؤساء الفرنسيون كانت تقوم على دعائم هشة، فقد خاضت فرنسا معركة تكسير عظام شرسة خسرتها في الجزائر والهند الصينية خلال خمسينيات القرن الماضي في معارك كانت من أبرز عناوين تصفية الاستعمار التقليدي، وتزامن مع هذا أيضاً هزيمتها السياسية في العدوان الثلاثي ضد مصر، وتراجعها في ختام هذه المعارك إلى حجمها السياسي والاقتصادي الفعلي.

وإن كانت باريس تعاملت بذكاء مع مستعمراتها في غرب إفريقيا وانحنت سريعاً للعاصفة وتجاوبت مع دعاوى الاستقلال من دون مواجهات عسكرية في معظم الأوقات، فقد حافظت بشكل أو بآخر على روابطها ونفوذها مع معظم النخب السياسية والفكرية الذين استقبلتهم تعليمياً وربما أيضًا في منظومة مصالح شخصية، وباستثناء حالات محدودة من تمرد هذه النخب فقد واصلت الأخيرة علاقة تبعية سياسية وثقافية لهذه البلدان وتدخلات في الحياة السياسية للحفاظ على هذا النفوذ ومعها مواصلة مصالحها الاقتصادية.
لكن هناك عوامل عدة طرأت تدريجاً على المشهد بعد انتهاء الحرب الباردة :
أولها:
النمو التدريجي لمصالح أجنبية عديدة في هذه الدول وفي القارة عموماً، وبشكل خاص الصين والهند ومعها قوى متوسطة طورت مصالح في القارة على رأسها تركيا وإيران.
ثانيها:
ظهور الجماعات المتطرفة في القارة مثل “بوكو حرام” وتنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش”، يعد خطر التهديد الذي مثلته لهذه المجتمعات الهشة على جميع المستويات نتيجة هذا الخطر الوجودي، واستجابت الدولة الفرنسية صاحبة النفوذ، هذه المرة مصطحبة قوات أميركية وغربية، للتصدي لهذه الجماعات المتطرفة لكنها طبقت الاستراتيجية الغربية التي تم تفعيلها في سوريا والعراق، وهي استغلال الموقف للحصول على وجود عسكري وسياسي والاكتفاء بعمليات متقطعة في غياب استراتيجية متكاملة لاقتلاع ظاهرة التطرف، أي إنها وظفت الظاهرة للحصول على وجود ونفوذ دائم (مسمار جحا) في هذه المجتمعات من دون مساعدتها بشكل جاد على مواجهة تحدياتها ومن دون حسم هذه المعضلة أي التطرف.
ثالثها:
تخبط حال النمو والاستقرار الاقتصادي والسياسي في ظل الشعور والإحباط الدائم من مواصلة فرنسا الاستغلال الاقتصادي لهذه البلدان.
رابعها:
تفاقم مشكلة الهجرة إلى أوروبا وبخاصة فرنسا، وإحباطات هذه الهجرة بأبعادها المختلفة في زمن العولمة والتواصل الاجتماعي، حيث ستختفي أساطير الجنة المزعومة عن السياسة والحياة في فرنسا من أصغر قرى هذه المجتمعات.
بعبارة أخرى سقطت الهالات وتكشفت تبعية النخب السياسية لقوة لا تهمها سوى مصالحها الذاتية، ولم يعد هناك أي بريق لهذا المستعمر السابق، بل أصبح المواطن البسيط يعي ما يدور حوله ويدرك ارتماء كثير من مكونات نخبته في الأحضان الفرنسية من دون مشاركة هذا المواطن في أي مزايا مع انتشار سمعة التوجهات العنصرية الفرنسية عن حق وعن باطل في عالم تتدفق فيه المعلومات.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك الوسط العربي
