إبداعات عربيةعاجل

غزة تحت الإبادة.. حكايات عن الذين لم يغادروا

 

أحمد عبد الحافظ

بلغة تكتسي بطزاجة الأدب والإبداع، يرصد الراوئي والكاتب الفلسطيني زياد عبد الفتاح، وزميله الناقد الدكتور عادل الأسطة يوميات الحرب على قطاع غزة التي دخلت شهرها السادس، في كتاب صدر منذ أيام عن دار ميريت عنوانه”غزة تحت الإبادة الجماعية

حكايات عن الذين لم يغادروا”.

يرصد عبد الفتاح والأسطة تفاصيل في يومياتهما ما يجري ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض من جرائم قتل وتجويع وتدمير وحصار وتشريد في ظل صمت وتواطئ عالمي، وفي زمن بائس ينكشف فيه الكل على الكل.

جاء الكتاب في قسمين، تخصص الأول للروائي زياد عبد الفتاح والذي راوح في كتابته بين السرد والتضمين والتوثيق وأحيانًا التسجيل، كتب حكاياته مغمسة بألم الفقد وأحزان غياب الأصدقاء والأحبة والأهل تحت ركام مبانٍ ما زالت تسقط على رؤوس سكانها بفعل الضربات الهستيرية اليومية، التي تسعى لاستهداف كل شئ في غزة من الوجود.

وفيما المدافع والدبابات والطائرات والقنابل في سعي محموم لا يشبع من القتل والتدمير ونهم الرغبة في إلغاء أحياء بكاملها بأشجارها وطيورها وسكانها، ومطاردة كل ما يتحرك على الأرض، واستهداف كل ما كان ساكنا بجدرانه يستقبل النازحين بحثا عن مأوى، كان زياد عبد الفتاح في القطاع يرصد تحت النار مشاهد وتفاصيل حرب الإبادة الجماعية ويستقصي أخبار من رحلوا من أصدقائه، وأحبائه.

 راح زياد عبد الفتاح يحكى عن الذينعرفهم وعاش معهم، الناس البسطاء، وأحلام السلام والحرية،في مواجهة القتل ومصادرة البيوت والترويع والتهجير من نصيبهم، وحين يلجأون –كما في أكتوبر الماضي للدفاع عن بلادهم وأراضيهم بأتي رد الفعل كما تلك “المقتلة” حسب وصف الدكتور عادل الأسطة.

يحكي زياد عبد الفتاح فيما يزيد على 25 حلقة عن صديقه الشاعر سليم النفار الذي استهدفته وعائلته الطائرات الاسرائيلية، واجتثته -ونحو 15 عشرة فردا من أبنائه وأبناء شقيقه- من الوجود، كان سليم صحافيا ومبدعا يقضي أوقاته بين عمله، وبين إبداعاته الشعرية والروائية، وكان يفرح كثيرا وهو يتجول بين فصول المدراس في غزة يقرأ القصائد على التلاميذ. لم يكن لسليم من سلاح سوى قصيدته وكتابه، لكن الطائرات الاسرائيلية تعشق أيضا بعثرة الحروف والكلمات، والعبارات الحالمة، تبحث عنها، وترصدها وتستهدفها حتى لو كانت في طيَّات أمال فتاة سمعت سليم ذات يوم، وعادت تخبر أباها “رائف” عنه، فاكتشفت أنه صديقه، وأنه حين تنتهي الحرب سوف يدعوه لتجلس وتستمع إلى أشعاره عن قرب.كان رائف يعرف الشاعر سليم النفار الذي رفض الهجرة إلى الجنوب وتمترس في شقته في حي النصر، كان لكل منهما رؤية؛ الشاعر لم يشأ أن يكرر هجرة أبيه، وبقي في حي النصر، وعندما أصبح أخوه في منطقة محروقة وخطرة استضافه هو وعائلته.

كانت تلك فتاة اسمها “شام”، ويبدو أن القذائف الاسرائيلية أدركت ما في روحها وحلمها في لقاء سليم النفار، فحددت لها ساعة وقتلتها.

حكي زياد عن عائلة شام، وأجدادها الذين كانوا يقيمون في حي الصفطاوي في الشمال الشرقي من العاصمة غزة، وتحت دفع المطاردة لجأوا إلى جباليا المدججة بالبشرمخلفين وراءهم بيوتهم وأراضيهم الزراعية وعشرات القرى الأخرى، وهناك أنشأوا مخيماتهم ليقيموا فيها ظنًا أنهم عائدون بعد أيام أو أسابيع، لكنها طالت وتمددت وأصبحت سنوات بلغت خمسًا وسبعين.

حين اشتد القصف خشي رائف خليل أبو شام على أطفاله وأبنائه وبناته. يعلم جيدًا أن الاسرائيليينقتلة ولا يمزحون، فاستجاب  لطلبات أسرته في الرحيل إلى أبعد مما تحملهم أقدامهم، راح يتنقل بعائلته من مخيم إلى قرية إلى مخيم آخر حتى بلغ اقصى الجنوب، في رفح وهناك كان ينتظره صديقان استضافاهوعائلته. وراحوا يعيشون معاً قصف الطائرات، وذات صباح بدا كأن هدأوتراجعت وتيرتُه. قالت شام التي تبلغ ست سنوات تخاطب أباها: القصف هدأ يا رائف، أريدالذهاب ألعب مع الأطفال، في الطريقإلى أصدقائهاكانللطائرة بحقدها الأسود رأي أخر، قصفتها، وطارت شام وتبعثرت، دون أن تسأل عن الشاعر سليم النفار الذي زارهم ذات مرة بدعوة من مديرة المدرسة حيث ألقى قصيدة هزت مشاعرها. لم تتوقف شام لتسأل أباها كيف مات الشاعر ولماذا قتلوه هو وعائلته وعائلة أخيه، لم يكن يحسن استخدام السلاح ولم يكُ درعاً بشرية وكان يحب قهوة ديليس والأطفال.

وفي اليوميات يحكي زياد عبد الفتاح عن مستشفى المعمداني، التابع لاتحاد الكنائس أقامه منذ سنين طويلة مسيحيو القطاع، وأحاله وزير الحرب العنصري جالانت وبموافقة نتنياهو إلى مقبرةٍ يكاد يكون كل من فيها شهداء.

وفي بداية يومياته يكتب زياد عبد الفتاح حلقة كاملة تحت عنوان “أهل غزة ليسوا فُرَّارًا” هم أهل ثبات، يكررها كأنها المقام الأساسي في سيمفونية، يقولها لنفسه، ولعائلته، وأصدقائه، ويبعث بها للقتلة الذين يستهدفونهم ليل نهار، كتب عن حاجز القدس أو حاجز قلندياالذيصنَّعوه على مقاسِ أمنٍ يؤمِّن لهم الوهم، ورآهم يضيفون له ما يعززه، منذ الأسلاك الشائكة إلى البوابات المعدنية التي تدور بعابريها، وقد تُغلق عليهم وهم في منتصفها. راح يتساءل بمرارة هل خطر ببال الجندي أن يعذبعابريه، فيزِن البوابة بما فيها، ومن عليها، ويمر بينها، ويوصدَها لأسباب لا تدور إلا في عقله المريض.

وتاخذ حكايات المستوطنات جانبا من تأملات زياد عبد الفتاح، يتتبعها وهي تعلو وترتفع أعلى قِمم الجبال الفلسطينية، وبعد أن يصادرونها، يحيطونها بأسلاك شائكة وجدران عازلة، يُوطّنون فيهاالجنود والاحتياطيين والمستورَدين المدججين بأسلحة فردية، يتسلمونها أثناء الخدمة العسكرية ويحملونها إلى بيوتهم، وإلى أي مكان آخر يقيمون فيه بعقدهمالنفسية بالغة التعقيد والقسوة، وفي مجتمعهمالمنقا الذي يَجرُّه شخص فاقدُ السيطرة، أطلق عليه طبيبه النفسي موشيه ناتو “الثقب الأسود المظلم”. قالها وانتحر احتجاجًا على أن الله وضع في طريقه “شلَّال كذِب”، تسع سنوات كاملة ذهبَتْ بعقله وتوازنه، فقرر الانتحار وأطلق على نفسه النار.

وهكذا تترى اليوميات واحدة وراء أخرى، عن الطريق الساحلي، والصيادين، وأبو حسين أحد رفاق أبو عمار، وكان يدير مؤسسة تهدف إلى مَيْكنة وتحديث ما يتعلق بمقر الرئاسة الفلسطينية، وليل غزة التي لا تنام، والعابرين من معبر “إيريز”.

المدهش في لغة اليوميات عند زياد عبد الفتاح، أنها تتلون وتكتسي بثقة صاحب الحق عندما يتحدث عن الأرض المحتلة، وترق لتصل إلى حالة من الشفافية عندما يحكي عن أحلامه وطموحاته، وحلمه بالوطن، وألوانَ الحنّون، وافتتانهبالفل والياسمين.

هكذا ينهي زياد عبد الفتاح سجل يومياته، في الكتاب، ليبدأ رصد الدكتور عادل الأسطة لما يجري حوله، ويتخذ الأسطة من الأحداث اليومية للحرب “المقتلة” تكأً، يعمقها، بما يستعيده من إبداعات شعرية وقصصية، لمحمود درويش، وسميح القاسم، وأحمد دحبور، وإميل حبيبي، وغيرهم من مبدعين كرسوا إبداعاتهم لرصد مأساة بلادهم، وطموحات مواطنيهم من أبناء الأرض الفلسطينية.

يستدعي شخصيات قصص روائية رسمها مبدعون مثل إميل حبييبي في قصته “لكع ابن لكع” وروايته “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”؟

التي يروي فيها سعيد بطل الرواية عن المرأة “اللداوية” ثريا عبد القادر مقبول التي زارت، بتصريح، “اللد” بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧، راحت تبحث عن ذهبها الذي خبأته في عام النكبة في الجدار، لكن، حين مدت الأم الثكلى، ثريا، يدها لتطول مصوغات عرسها، ناولها رجل القيم على أراضي إسرائيل شهادة بالذهب وأخذ الذهب وذهب، وأما الثريا فأخذت شهادة الذهب وذهبت عبر الجسور المفتوحة، راجعة تسف الثرى في مخيم الوحدات، وتدعو بطول البقاء لذوي القربى ولأولاد عمهم.

ولا يتوقف الأسطة في يومياته عند أبطال  القصص والروايات، لكنه يستدعي حكاياتفلسطينية، عما يجري ساعة بساعة من جرائم إبادة لهم، يترصدها على مواقع التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية، ويحكيها من جديد مغلفة بالشعر والأمثال الشعبية والمأساة والصمت وعار الإنسانية.

زر الذهاب إلى الأعلى