نبيل عبد الفتاح : أى لغة هذه القادرة على حمل هذه الحالة الدرامية، بل التراجيدية؟

أحمد عبد الحافظ
في الكتاب الشعري “ما قالته غزة” الذي صدر حديثا عن دار ميريت يطل علينا 26 شاعرا مصريا وعربيا وبقصائدهم التي كتبوها تحت القصف وأخبار المذابح اليومية التي يتعرض لها أهل غزة وأطفالهم، تحكي غزة وتبوح بما في روحها من طمواحات وأحلام، بأصوات الشعراء، وتكشف عما في العالم من تواطئ وفساد ضمائر، الشعراء الفلسطيني خالد جمعة واليمني فتحي أبو النصر، والجزائري شمس الدين بوكلوة والمصريون ياسر الزيات، وأحمد المريخي، وأمين حداد، وزين العابدين فؤاد، وفتحي عبد السميع، ورضا أحمد وغادة نبيل، وأخرون، كتبوا قصائد تضج بالحياة فى مواجهة الموت الذي يتحرك كخفاش في سماء قطاع غزة بعد أن تركها الجميع لمصيرها في مواجهة القوة الغاشمة والتواطئ والحقد الأسود.
وفي قصيدته “في الحرب… بعيداً عن الحرب” يرى الشاعر الفلسطيني خالد جمعة، الشرفة مقتولة، وهناك، في مواجهتها تماما يرتسم المشهد، عاشقة تحدث محبوبها، تدعوه أن يقفز بين الركام، يمضي بعيدًا، ويجرب أن يرى السماء بعيدا عن الحرب.تأتي القصيدة كأنها ومضة في حلم يتمنى لو يتحقق لأجل من تنظر لحبيبها وتدعوه أن لا يجعل نفسه بيتا لأحد، وهي تناديه “يا حبيبي على الشرفة المقتولة، جرّب مرةً واحدة في هذا العمر القصيرأن ترى السماء بعيدًا عن الحرب”.
ويسأل الشاعر المصري “صلاح اللقاني” في قصيدته الموجهة للشهيدة الفلسطينية وفاء إدريس “ليس ثَمَّةَ حاجزٌ غيرُ السؤالِ الصَّعْبِ :ما معنى وجودكَ؟!، أما الشاعرة غادة نبيل فترصد التناقض المخجل الذي يلقي بظلاله على أرض فلسطين، فبينما تفيض حولهاالآبار بخيراتها، وفي كل مكان، إلا أن أبناءها محرومون منها،وخيراتها في زمن الخنوع، وفي قصيدته “جثة باردة” التي أهداها إلى أرواح أطفال غزة يرسم الشاعر محمد الكفراوي وقع اغتيال الطفولة وحالة الذهول التي تصيب الأباء، وهم يحملون جثث أطفالهم، الذي راحوا ضحايا في حرب همجية بلا قلب. يقول: “ويطلُبون منِّي أن أدفِنَها بيَديّ، ماذا أقول لدميتِها؟!”
صدر الكتاب بمقدمة ضافية للمفكر الدكتور نبيل عبد الفتاح مستشار مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية، أشار خلال سطورها أن قصائده تجمعتفى سرعة وموقفية شاهدة علي أحداث حرب دامية محاطة بالصمت، والعجز، والتصدع، والتفكك، والفشل العربى الجماعى، حيث لا يجد صراخ الأطفال، والنساء صدى فى هذا الخواء، والفراغ!.
وفي مقدمته يتحدث عبد الفتاح عن القصائد واللغة الطفولية، ومفرداتها التى تمازجت، وتناصت مع لغة الكبار، براءة محمولة على نضج صنع من ثقافة المقاومة كنمط حياة فى قطاع غزة، فى ظل نقص المياه، والطعام والدواء، والبحث عن مكان آمنً، حيث لا أمان.
ويتساءل: أى لغة هذه القادرة على حمل هذه الحالة الدرامية، بل التراجيدية؟.. أى لغة تستطيع حمل تحول الجندى الإسرائيلي من أسطورة الرجل الأعلىإلى جزء عضوي من رهاب الخوف،وإلى إنسان عادىأمام جسارة المقاوم حافي القدمين؟، ولا توجد في رأي عبد الفتاح سوى لغة الشعر، ومجازاتها، وعوالمها القادرة على حمل المأساة، والشجاعة، والمقاومة، والموت، والألم، والصرخات، والقصف الجوى والمدفعى، والحياة خارج المنازل المهدمة، والمستشفيات التى تتحول إلى ركام.
ويرى عبد الفتاح أن اللغةمسكن الوجود،هي العالم، والشعر ولغته هي القادرة على حمل الصور، والحواس المتفجرة بالألم، والصراخ، والصمود، والشجاعة، والتعايش مع الموت الذى بات رفيق الإنسان الفلسطيني العادي.
هنا يمكن القول حسب المقدمة أن حالة التخييل الشعرى ربما لاتساوق بعضها، صدمة الصور الفوتوغرافية، والفيديوهات الطلقة، ومشاهد الحرب فى وحشيتها، أو جسارة المقاومة، أو براءة الأطفال التى استوت على نضجها فى آتون الحرب الدامية، فاللغة الشعرية، والتجربة الشعرية في قصائد الكتاب لا ترتكز على المعايشة المباشرة، إلا للشاعر الذى خرج من بين جحيمها، وأعطافها، من الشعراء الفلسطينيين، أما الشعراء الآخرون من مصر، وعالمنا العربى، تبدو تجربتهم الشعرية بصرية، حيث اعتمدوا على التمثل البصرى الفوتوغرافي، والفيديوهاتى علي الفضائيات، وأيضا من مواقع التواصل الاجتماعى ومنشوراته، وتغريداته، وفيديوهاته المبثوثة على هذه المواقع.
وتكشف مطالعة المشاركات التي ساهم بها الشعراء أنناإزاءشعرية ترتكز علي أثر حركية الشرائط الفيديوهاتية الطلقة فى التجربة الشعرية، وبعض اللغة الرقمية التى تعكس حالة الدراما الشعرية، والبصرية فى القصائد، ومعها استدعاءات الشعراء لرأسمالهم اللغوى، والمجازى فى بناء قصائدهم، والانتقال من البصرى، والمشاعرى المباشر، واللحظى إلى ما وراء الحالة، وصورها، ومشاهدها القاسية، أو جسارة المقاومين للعدوان المتدثر بالأقنعة التوراتية النصوصية، لتبرير وشرعنة وحشيته تجاه الأبرياء المغروسين فى ثري الوطن وتاريخه.
وتنبني القصائد على ما يمكن تسميته شعرية اللحظة البصرية، حيث يبتعد المخيال والتخييل الشعرى عن زمن الشعرية العمودية، والتفعيلية إلى شعرية الصورة، كي يستنطق ما وراءها، ويستدعى، الرموز، والأساطير، والمجازات المحمولة على التاريخ، والفلسفة، والفن والصور التشكيلية ليصعد باللحظة إلى آفاق رحبة، وانسانوية.
وتتميز قصائد ديوان”ما قالته غزة”باعتمادها على لحظية الحدث/ الكارثة، والبطولة/ المقاومة، والأهم ثقافة مقاومة الإنسان العادى، وبطولته، وحياته فى قلبالموت، وعلى هوامشه، وتحوله إلى جزء من تفصيلات اليومى، والمشهدى، واشتهاءاته بديلا عن الحياة كموت فى ذاتها، بل أكثر من كونها حياة أقسى من الموت. قصائدغزة ترتكز على التفاصيل المشهدية، والأهم ما وراءها. وتتجلى فيها بعض من أثر المباشرة الحدثية وذلك بالنظر إلى طبيعة المأساة، وانهمار الصواريخ، والقنابل، والرصاص، والجوع، والعطش، وغياب الماء والدواء وتدمير المبانى، والفقد، والتعاضد الانسانى، وهجر الأمكنة قسريًا، سعيا وراء أماكن أمنه تبدو عسيرة الوصول إليها، وتبدو حينًا كوهم.
ويبرز في ثنايا القصائد عالم من التفاصيل، والمشاهد الدامية، المترعة بالنزف المشاعرى، والجروح الحواسية، والذاكرة الكابوسية،وتنهمر الصور، واللغة، والخطاب اليومى، وهكذا، ومن قلب الفيديوهات الطلقة، والتفاصيل، والمشهدية تأسست قصائد الديوان، لتعبر عن تجارب بصرية، ولحظية، ومشهدية خاطفة، ومن خلال اللغة الشعرية المساوقة لها!.
