متنوعات

هل باتت القضية السورية مجرّد تفاصيل؟

تكشف مخرجات الوضع السوري حالياً عن مشهد بالغ التعقيد، تتشابك تداعياته مع تضارب مصالح الدول، والتنافر السياسي، والخلافات الإيديولوجية، وغيرها الكثير. ولعل استمرار البؤس الناتج عن ديمومة الأزمة سمح لكل وجهات النظر المتفحصة لهذا المشهد -بغض النظر عن توجهات حامليها- أن تشخص أدق التفاصيل، ولعل هذا هو ما يجعل سبل التوافق تجتمع بسلاسة داخل المجتمع الدولي. في إطار التحليل والتشخيص، لكن الأمر يبدو مختلفاً جداً في ما يتعلق بسبل المواجهة والبحث عن المخارج المتاحة.

ولعله صحيح أن السوريين نجحوا في مواجهة الاستحقاق الأهم والأساسي في أجندة الثورة. أعني أنهم انتفضوا ببسالة وهزموا آلة القمع الأسدية، وأدت تضحياتهم وصمودهم على مدى السنوات الماضية إلى إزالة حجاب الانحطاط الأخلاقي والأخلاقي في منظومة السلطة الحاكمة بشكل كامل. ولكن ربما يكون صحيحاً أيضاً أن هذا الإنجاز الشعبي السوري بقي ضمن إطاره الثوري ولم يتحول إلى مجال السياسة. لقد أصبحت التضحيات الهائلة والقيمة الإجمالية للنضال الشعبي إرثًا يتيمًا، أو حتى تُرك ليشق طريقه إلى الذاكرة الجماعية للسوريين، دون أن تتمكن النخب السياسية، من قوى وجماعات وأفراد، من استلهامها. ومن ثم استثمارها في المجال السياسي. السياسة، وبالتالي لا حرج في مواجهة الحقائق التي تؤكد تعثر مشروع التغيير في سوريا. ولعل أهم مظاهر هذا التعثر هو اختفاء مفهوم فكرة الثورة -على مستوى الحقائق- وتحولها إلى قضايا جزئية أخرى يراد بها أن تكون بديلا عن القضية الأساسية، ولهذا سبب تحول قضية سوريا في الأوساط الدولية إلى مجموعة قضايا مقطوعة عن جذورها الأساسية، وبدأ العالم يتحدث عن مشكلة اللاجئين السوريين ومخيمات النزوح كأحد تداعيات الحرب الأهلية في سوريا، كما إذا كان هذا الصراع الأهلي المفترض قد ظهر فجأة بين السوريين نتيجة توترات قومية أو طائفية أو دينية، ولا علاقة له بثورة شعب. لقد انتفض ضد سلطة دموية اغتصبت حقوقه وانتهكت حريته وكرامته على مدى عقود. وحتى الدول العربية التي دعمت الثورة السورية في بداياتها، انتهى بها الأمر إلى التفاوض مع الجلاد، وحتى التفكير في مكافأته إذا وافق على إعادة ضحاياه من اللاجئين والنازحين إلى ديارهم.

كذلك بدأ العالم يتحدث عن الاحتياجات الإنسانية للسوريين بمعزل عن سياقها السياسي والأخلاقي. وهكذا تحولت مسألة فتح المعابر أو تمديد الإذن بمرور المساعدات عبر المعابر الرسمية إلى معارك حقيقية داخل مجلس الأمن، ومناشدة الجلاد وحلفائه الدوليين قبول وصول الغذاء والدواء، وأصبحت بعض الاحتياجات الأساسية لضحاياهم مشكلة. السوريون هبة عظيمة ومظهر يستحق الشكر والترحيب من الكثيرين.

ولا داعي لمزيد من التفصيل حول قضية المعتقلين والمختطفين ومن ماتوا تحت التعذيب، باعتبار أن هذه القضية تجاوزت كل مظاهر الإنكار والإهمال وأصبحت عمياء الأبصار.

ولا داعي لمزيد من التفصيل حول قضية المعتقلين والمخطوفين ومن ماتوا تحت التعذيب، باعتبار أن هذه القضية تجاوزت كل مظاهر الإنكار والإهمال، وغدت تعمى الأبصار بمختلف أشكال التوثيق في المعتقلات. من الهيئات الدولية والإنسانية. إلا أن التعامل مع هذه القضية ما زال أقل بكثير من مستواه الأخلاقي. ويمكن التأكيد أن أحزاب المعارضة السورية الرسمية كانت رائدة في بلادها في هذا المجال قبل غيرها.

ولا شك أنه لا يمكن تجاهل كل العوامل المؤثرة على إرادة السوريين – كشعب أعزل يواجه كياناً استبدادياً مزوداً بكل وسائل القتل والإجرام ويخلو من كل رادع بشري – ولا شك أيضاً. – أن حجم المؤامرة الدولية والإقليمية كان حاضراً بأغلبية ساحقة على الساحة السورية. مقاومة، لكن يمكن التأكيد في الوقت نفسه أن كل تلك العوامل الموضوعية التي خرجت من خارج الفضاء السوري لم تكن لتحقق وجودها ونموها وازدهارها لولا اعتمادها على نواة أو نوى سورية قادرة على زراعة الوباء. ومع نمو واستمرارية الدور المنوط بهذه النوى من حولها. أن نكون جزءاً من المشكلة، بل ضابطاً حقيقياً لأي نضال أو جهد وطني مهما كان متواضعاً. وما لا يدع مجالاً للشك أيضاً هو أنه رغم كل هذا التشطيب الدولي والإقليمي على مفاصل القضية السورية بالتوازي مع تراجع الدور الوطني، فإن استعادة المبادرة لن تكون إلا مهمة سورية بحتة، وبينما لا بد من توحيد الجهود الدولية. الجهود النشطة على الساحة السورية، فإن نجاح تلك الجهود والمساعي يعتمد على قدرة السوريين على أن يكونوا نواة صلبة ودافعة أو محفزة لهذا المسعى، وانطلاقاً من هذا التصور يمكن النظر إلى العديد من المبادرات التي أطلقها السوريون سواء كانوا أحزاباً أو منظمات مجتمع مدني أو أفراداً، بهدف تعزيز حضور القضية السورية في قائمة الاهتمامات. المجتمع الدولي وكذلك بهدف البحث عن سبل لإنقاذ السوريين من القتل الأسدي المستمر منذ ثلاثة عشر عاماً، لكن اللافت في معظم هذه المبادرات هو أنها تركز على مظاهر وتشظي المجتمع الدولي. المشكلة وتجنب مواجهة جوهرها، مثل العديد من الدعوات التي ترى أن الحل يكمن في إقامة نظام فيدرالي في سوريا. وهذا من شأنه أن يمنع التعدي على السلطة، وربما يساهم في تقليم أدوات قمعها وهيمنتها، والضامن لهذا المسعى هو الدستور الجديد. ومنهم من يقترح توحيد المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة الحاكمة بضمان ورعاية دولية. ومن شأن هذه العملية -إذا تحققت- أن توفر للسوريين المزيد من الأمن، وتتيح لهم استثمار مواردهم الوطنية، وتفتح المجال أمام عودة النازحين إلى ديارهم، بحسب أصحاب هذا الرأي. ومن الجدير بالذكر هذا الاقتراح. منذ عام 2012، أخذ نظام الأسد بعين الاعتبار مشروع “سوريا المفيدة” كاحتمال محتمل ومخرج لاستمرار قوته. ومن بين هذه المبادرات من يرى أن الحل يكمن في صياغة مشتركة لدستور جديد من قبل السلطة ومعارضيها، تليها عملية انتخابية جديدة في البلاد مع استمرار وجود بشار الأسد ورموز نظامه. في السلطة. وتجسد هذه المبادرة وجهة النظر الروسية، وتتبناها أيضًا الجهات الرسمية في المعارضة السورية من خلال مساهمتها وتفاعلها. خلال انعقاد اللجنة الدستورية. ولعل القاسم المشترك بين كل المبادرات والحلول المطروحة هو أنها تتجنب حقيقة مضمونها: أن أسباب مأساة السوريين لا تكمن في مصير الجغرافيا، ولا في التنوع العرقي أو الديني، ولا في إرث الشعوب. الانتقام السوري ناتج عن صراع سكاني ينتظر لحظة الانفجار، ولا بدستور يفتقر إلى مضامين تحفظ كرامة المواطن وتحوله دون المساس بحياته وحقوقه، بل يكمن في كيان استبدادي مبادٍ، طالت وحشيته أثبتته الوقائع أنه يفوق كل الدساتير والقوانين الإنسانية، وتجاوزت إجرامه كل حدود الجغرافيا، وأعمى أعين العالم عن وحشيته، التي لا ترى إلا من خلال منظار مصالحها النفعية، بعيدا عن أي وغيرها من الاعتبارات القيمة، كما تشير الحقائق. وتشير التجارب المريرة المستمدة من العهد الأسدي إلى أن أي جهد لإنقاذ السوريين وتحريرهم هو السبيل الوحيد لإزالة أو استئصال كيان الحاكم الإبادة الجماعية. فهل فشل السوريون في مواجهة هذا الاستحقاق الكبير؟ نعم، لكنه فشل نخبوي بامتياز، إذ أن الشعب السوري استوفى استحقاقاته بكل جدارة وقدم ثمرة إنجازه للقوى والمجموعات السياسية التي ادعت قيادته وتمثيله، لكنها فشلت في تجسيد الحراك الشعبي. الإنجاز الثوري وتحويله إلى مواقف سياسية داعمة ومساندة لقضيتهم الوطنية، وفشل النخب بمختلف أشكالها ومستوياتها – الثقافية. سياسياً واقتصادياً – لا يجوز لها تكريس القبح لتبرير الفشل، بل ينبغي تحفيزه ودفعه نحو العمل على استعادة المبادرة بما يرقى إلى الحد الأدنى من تطلعات السوريين ومستوى تضحياتهم. هل هذه الدعوة شكل من أشكال التشكيك أم الهجوم على وطنية أصحاب المبادرة أو درجة صدقهم الأخلاقي؟ مُطْلَقاً. بل ربما انطوت بعض هذه المبادرات على شعور بالمسؤولية وغيرة وطنية واضحة لدى أصحابها تجاه معاناة شعبهم السوري. لكن هل تتجنب بعض هذه المبادرات مواجهة الاستحقاقات الراديكالية لتبرير إنجازها السياسي الصفري من جهة، ولتبرير احتفاظها بامتيازات مصلحية من جهة أخرى؟ نعم أدعي ذلك.

حصة هذه المادة

للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر

زر الذهاب إلى الأعلى