الإسطورة التى لا تموت..خلعت أستار التقاليد.. وكسرت المحرمات الإجتماعية

عرض : نجوى إبراهيم
“نحن لا نريد قتلكم نحن نحتجزكم فقط كرهائن لنخلص إخواننا المعتقلين في سجون دولتكم المزعومة من براثن الأسر، نحن شعب يطالب بحقه في وطنه الذي سرقتموه ما الذي جاء بكم إلى أرضنا؟”..هذا ما قالته “دلال المغربى” الفتاة الفلسطينية ذات العشرين عاما التى تعتبر واحدة من أبرز المناضلات الفلسطينيات،و قادت “عملية كمال عدوان” وتمكنت هى و فرقتها من ايقاف حافلة كبيرة واحتجاز أكثر من 68 رهينة ..بمجرد أن سيطرت “دلال”على الحافلة كان الاندهاش يخيم على وجوه الرهائن إذ لم يخطر ببالهم رؤية فدائيين على أرض فلسطين . وحين رأت دلال ملامح الاستغراب على وجوههم سألتهم: هل تفهمون لغتي أم أنكم غرباء عن اللغة والوطن! كان من بين الرهائن فتاة يهودية من اليمن تعرف العربية ترجمت ما تقوله دلال للرهائن، ثم أردفت دلال تستكمل خطابها بنبرات يعلوها القهر: لتعلموا جميعا أن أرض فلسطين عربية وستظل كذلك مهما علت أصواتكم وبنيانكم على أرضها.
رفع العلم الفلسطينى
أخرجت دلال من حقيبتها علم فلسطين وقبلته بكل خشوع ثم علقته داخل الباص وهي ترد”بلادي… بلادي… بلادي .. لك حبي وفؤادي..فلسطين يا أرض الجدود .. إليك لا بد أن نعود.
وبعد أن أصبحت دلال وفرقتها على مشارف تل أبيب اكتشفت القوات الإسرائيلية العملية نتيجة تأخر الحافلة في الوصول إلى محطاتها في الموعد، كلف الصهاينة فرقة خاصة يقودها «إيهود باراك» بإيقاف الحافلة وقتل أو اعتقال ركابها من الفدائيين ,وتم وضع الحواجز في جميع الطرق المؤدية إلى تل أبيب لكن الفدائيين تمكنوا من تجاوز الحاجز الأول ومواجهة عربة من الجنود وقتلهم جميعاً، فوضعت قوات الاحتلال المزيد من الحواجز في الطرق المؤدية إلى تل أبيب، غير أن الفدائيين استطاعوا تجاوز حاجز ثان وثالث حتى أطلوا على مشارف تل أبيب فارتفعت روحهم المعنوية أملا في تحقيق الهدف، لكن قوات الاحتلال صعدت من إمكاناتها العسكرية بمزيد من الحشود، وتمركزت الآليات العسكرية المدرعة قرب نادٍ ريفي اسمه كانتري كلوب وأصدر إيهود باراك، أوامره بإيقاف الحافلة بأي ثمن.
عملت القوة الإسرائيلية على تعطيل إطارات الحافلة ومواجهتها بمدرعة عسكرية لإجبارها على الوقوف,و حاولت المجموعة الفدائية مخاطبة الجيش بهدف التفاوض و أملا في ألا يصاب أحد من الرهائن بأذى، لكن الجيش رفض أن يصغي لصوت الفتاة اليهودية التي حاولت محادثتهم من نافذة الحافلة وأعلن عبر مكبرات الصوت أن لا تفاوض مع المخربين وأن عليهم الاستسلام فقط.
وقامت وحدات كبيرة من الدبابات والطائرات المروحية بملاحقة الحافلة إلى أن تم توقيفها وتعطيلها قرب مستعمرة «هرتسليا»فأصدرت دلال أوامرها بالمواجهة.
الشهادة فداء للوطن
جرت معركة عنيفة، حيث اندلعت حرب حقيقية بين الفدائيين والقوات الاسرائيلية,و استمرت الاشتباكات في قلب تل أبيب لمدة تزيد عن 40 ساعة متتالية ، وفجرت دلال الحافلة بركابها الجنود فقتلوا جميعهم وقد سقط في العملية عشرات الجنود من قوات الاحتلال، ولما فرغت الذخيرة من دلال وفرقتها استشهدت بطلقة في الرأس كما باقي الفرقة وتم أسر واحد.
استشهدت دلال المغربي ومعها أحد عشر من الفدائيين بعد أن كبدت جيش الاحتلال نحو 37 قتيلا وأكثر من 80 جريحا وفقا لاعترافات رئيس وزراء العدو وقتها «مناحيم بيغن» في اليوم الثاني للعملية,أما الأثنين الأخرين فاحدهما نجح فى الفرار والآخر وقع أسيرا متأثرا بجراحة .
تداولت على المواقع الالكترونية مشاهد لدلال وهى شهيدة بعد تنفيذ العملية و”إيهود باراك “يشدها من شعرها ويركلها بقدمه وحول هذا المشهد تقول أحد الروايات عندما سأل “باراك” الأسير الذى وقع فى يد قوات الاحتلال عن قائد المجموعة فأشار بيده إلى دلال فلم يصدق ,وكرر عليه السؤال فكرر قوله السابق ,فأقبل عليها باراك بعد استشهادها وأخذا يشدها من شعرها و يركلها بقدمه.
وصيتها
تركت دلال المغربي قبل استشهادها وصية مكتوبة بخط يدها تطلب فيها من رفاقها المقاومة حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني…..فقالت” مكتوبة جاء فيها :”وصيتي لكم جميعا أيها الإخوة حملة البنادق تبدأ بتجميد التناقضات الثانوية، وتصعيد التناقض الرئيسي ضد العدو الصهيوني وتوجيه البنادق كل البنادق نحو العدو الصهيوني، واستقلالية القرار الفلسطيني تحميه بنادق الثوار المستمرة لكل الفصائل، أقولها لإخواني جميعا أينما تواجدوا: الاستمرار بنفس الطريق الذي سلكناه”.
جثمان دلال
وبعد مرور أكثر من 45 عاما على استشهاد “دلال المغربى” لا يزال العالم العربى ينظر لها كشهيدة وبطلة قومية وامراة كسرت هيبة اسرائيل ,بينما فى إسرائيل وصفوها بأنها إرهابية ..
كانت دلال المغربى على قائمة الجثامين التى طالب بها حزب الله اللبنانى فى إطار صفقة لتبادل الأسرى أبرمت مع إسرائيل فى 17 تموز /يوليو عام 2008..ولكن فحوص الحمض النووى أظهرت عدم إعادة الجثمان ,وأن الجثث المعادة هى لأربعة قتلى مجهولى الهوية ,ولا يزال جثمانها غير معروف.
وكان التلفزيون الإسرائيلي قد قال، أن اسرائيل لا تريد السماح بدفن جثمان دلال في رام الله، حتي لا يتحول الي رمز و مزار.
و تتضارب الروايات الإسرائيلية عن اختفاء جثة دلال المغربي, فهناك روايات تشير إلى أن سلطات الاحتلال تحتجز الجثمان فى مقابر الأرقام,
فى حين كشفت صحيفة “معاريف الإسرائيلية عن وجود رواية اسرائيلية حول اختفاء جثة المناضلة الفلسطينية دلال المغربي التي كان يفترض تسليمها إلى حزب الله في إطار عملية تبادل الأسرى التي جرت في 16 يوليو2008 وهى أن انجرافات في التربة تحت الأرض دفعت بجثة المغربي من المقبرة وأدت إلى اختفائها فيما أكد مسؤول عسكري إسرائيلي وجود أربعة قضبان حديدية حول كل قبر لمنع تحرك التوابيت منوهاً إلى أن داخل كل تابوت زجاجة تحتفظ برقم الشهيد ما يعني إمكانية معرفة هوية المدفون حتى لو انجرفت التربة.
جاءت هذه العملية البطولية لتؤكد على إصرار الشعب الفلسطيني على مواصلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الصهيوني، كما أنها تعتبر رمزاً لمواصلة النضال و لرفض الحلول الإستسلامية.
ورغم استشهاد المغربى ورفاقها إلا أنها ستظل رمزا ,وسوف يبقى تاريخ الحادي عشر من أذار عام 1978م محفوراً في الذاكرة الفلسطينية، ويوماً مشهوداً من أيام العزة والخلود للأمة العربية
جمهورية مستقلة
كتب الشاعر والأديب نزار قباني مقالاً يصف العملية جاء فيه: “في باص… أقاموا جمهوريتهم أحد عشر رجلا بقيادة امرأة اسمها دلال المغربي تمكنوا من تأسيس فلسطين بعدما رفض العالم أن يعترف لهم بحق تأسيسها… ركبوا أتوبيسا متجها من حيفا إلى تل أبيب وحولوه إلى عاصمة مؤقتة لدولة فلسطين رفعوا العلم الأبيض والأخضر والأحمر والأسود على مقدمة الأتوبيس وهتفوا كما يفعل تلاميذ المدارس في الرحلات المدرسية وحين طوقتهم القوات الصهيونية ولاحقتهم طائرات الهليوكوبتر و أرادت أن تستولي بقوة السلاح على الأتوبيس ففجروه وانفجروا معه ولأول مرة في تاريخ الثورات يصبح باص من باصات النقل المشترك جمهورية مستقلة كاملة السيادة لمدة 4 ساعات، إنه لا يهم أبدا كم دامت هذه الجمهورية الفلسطينية المهم أنها تأسست وكانت أول رئيسة جمهورية لها اسمها دلال المغربي”.
وقال عنها إلياس خوري في صحيفة النهار البيروتية عام 2008:”امرأة من فلسطين مزيج من أحزان يافا وعطرها المسيج بالحزن، ومأساة اللد ومجزرة جامع دهمش، امرأة خلعت أستار التقاليد وكسرت المحرمات الاجتماعية، ذهبت لحريتها لتلاقي الحرية، لم تذهب دلال المغربي ورفاقها إلى الانتحار أو الموت، بل ذهبت إلى القتال لأنها كانت تصنع الحياة، ألا يقول لكم وجه هذه الفتاة شيئا؟؟ ألا يقول لكم وضوحها الوطني وتحررها وأخلاقها الثورية العالية الكثير عن واقعكم اليوم؟ ألا تستحق ذاكرة البطولة أن تستعاد وأن تكون علامة مضيئة وسط هذين الظلام والإظلام في العالم العربي؟”