كتاب رسائل الماركيز دي ساد من السجن.. يكشف قمع السلطات الفرنسية وتفضح ممارساتها

أحمد عبد الحافظ
وفي كتاب “رسائل من السجن” الذي قدم نسخته العربية المترجم المصري لطفي السيد منصور، يدافع الماركيز دي ساد عن نفسه، في مواجهة مضطهديه، ويعترف بأنه “فاسق”؛ وأنه تخيل في كتاباته كل شيء يمكن القيام به، لكنه لم يفعل كل ما تخيله، ويذكر أنه ليس مجرمًا ولا قاتلًا، ولما وجد نفسه مجبرا على وضع اعتذاره جنبًا إلى جنب الدفاع عن نفسه، قال إن أولئك الذين يدينونه ظلمًا هم مثله، كما إنهم لم يكونوا يوما قادرين على موازنة عيوبهم بالأعمال الصالحة، وخلال سطور رسائل كثيرة بعثها لها، كال دي ساد لزوجته مدام دو ساد، الاتهامات وأطلق في وجهها الصفات التي تحط من قدر عائلتها، مشيرا إلى يكره أسرتها الشائنة، وسوف تتطابق حلقات انتقامه يومًا ما مع كل عوائدها الشرسة.
“رسائل من السجن.. بين سادية الخيال وسادية الواقع”، للفيلسوف والكاتب الفرنسي دوناتيان ألفونس فرانسوا، “الماركيز دو ساد”، “1740- ديسمبر 1814″، صدر مؤخرا عن دار الرافدين العراقية، وهو الذي حظرت سلطات بلاده على مدى سنوات طويلة مؤلفاته؛ والتي من بينها “الفلسفة في المخدع”، و”مصائب الفضيلة” أو “مائة وعشرون يومًا في سدوم” بزعم أنه يدعو إلى الإيروسية المشبعة بالعنف والقسوة. ولم يتوقف ما تعرض له “دو ساد” عند هذا الحد، لكنه قضى أيضا سبعة وعشرين عاما من عمره رهن التوقيف والاحتجاز، حيث وجدت جميع الأنظمة التي حكمت بلاده، في كتاباته، خطرا على المجتمع.
كتاب رسائل الماركيز دي ساد من السجن يحتوي على أكثر من 70 رسالة
تكشف الرسائل التي تزيد على 70 رسالة تتراوح بين التلغرافية والمحاورات الطويلة عن “فكر وحياة ونفسية دي ساد”، وفيها يبدو شخصية أخرى غير التي يعرفها القراء من خلال كتاباته الأدبية والفلسفية، فتارة يظهر ساخطا على ابنه الأكبر بسبب جفائه، وتارة يشعر بالمسؤولية تجاه أبنائه، ويتمنى أن تربيهم جدتهم لأمهم أفضل مما رُبي هو، كما يظهر فيها بوصفه مفكراً لا يساوم على مبادئه من أجل أي شيء حتى لو كانت الحرية، وتتضح فلسفته التي يبرهن من خلالها على التفاوت بين طبائع الناس، ويجعل النسبية هي الأساس في التعامل معهم.

وقد توافقت جميع السلطات القمعية التي كان دو ساد معاصرا لها، في فرنسا على أسلوب واحد للتعامل، مع كتاباته وأفكاره، فكان الرفض والتحفظ من جانبها على كل ما جاء فيها، وقد نظروا له جميعا كمتهم، ولا فرق في ذلك بين النظام الملكي، وحكومة القناصل والنظام الإمبراطوري، والجمهوري، فمنهم من قام بوضعه تارة تحت الإقامة الجبرية والحبس في سجن الباستل، وتارة عزلته في “مصحة شارنتون”، وهي مستشفى للأمراض العقلية، عاش فيها “دو ساد” مع المصابين بالجنون والصرع والأمراض العقلية الأخرى، ولما وجد نفسه في مواجهة يومية معهم، كون من بينهم فرقة مسرحية، سرعان ما قدمت عروضًا عامة، ومهرجانا شبه احتفالي، هرع إليه واحتفى به معظم سكان باريس، وتلقى دعما كبيرا من مدير المشفى، الذي كان يرى فيه مزايا كبيرة، فيما يتعلق بحالة النزلاء، لكن “دو ساد”، رغم كل هذا التشجيع وجد نفسه، ومحاولته الاستثنائية لابتكار نوع مفيد من العلاج للنزلاء، يصل لطريق مسدود، بعد أن قررت السلطات الفرنسية منعه من الاستمرار، وأوقف نشاط الفرقة.
حكايات من كتاب “رسائل الماركيز دي ساد من السجن”
ولا يوجه “دي ساد” رسائله إلى شخصيات يعرفها فقط، مثل عمته “رئيسة دير سان بينوا”، وزوجته “رينيه بيلاجي دي مونتروي” ووالدتها، لكن أيضا يبعث خطاباته لمستقبل غير محدد، يتمثل تارة في سجانيه، ويسميهم “السادة المديرون”، وتارة يوجه كلامه في الرسائل إلى جمهور لا نهائي، وغير محدود، يقول “أنا أؤكد للكون كله”.
ويصف دي ساد “حماته” في إحدى خطاباته، ب”الرئيسة مونتروي”، و”العادلة والمنصفة” ثم يعود ويقول عنها إنها سبب تعاسته الممتدة، بعد اصرارها على تزويجه من ابنتها الكبرى رغم أنه كان يتمنى الصغرى التي مال لها ومالت له، وقد راح بعد فترة شديدة من الغيرة تجاه زوجته، يركَّز دو ساد غضبه الساخر على والدتها، متهِمًا إياها بأنها السبب الوحيد لمصائبه كافة، وقد أسرّت المرأة ذلك في نفسها لتبدأ رحلة تعذيبه، وقد راحت تنكل به وتستغل أفكاره وكتاباته لمعاقبته كلما أرادت.
وتشكِّل، رسائل الماركيز إلى “جوفريدي”، وهو رجل أعمال وصديق طفولته معًا، الجزء الأكبر من مراسلات دو ساد المعروفة، وفيها تظهر انفعالاته سواء مُعنَّفًا، مهدَّدًا، مهانًا، ممدوحًا أو متوسلاً، ولا ينفصل كاتب عدل “بروفانس” هذا عن حياة دو ساد الذي يشاركه كلَّ تحولاته الفكرية. وبسبب العديد من المغامرات، يحاول «جوفريدي »، مع تقدُّم العمر، أن ينأى بنفسه عن موكله الرهيب. وهو، بالطبع، ما لا يناسب ميل الماركيز.
وبين رسائل دي ساد هناك خطابات بعث بها إلى “فينو” وهو كاتب العدل في بلدة “شارنتون” التي تقع ضمن ضواحي باريس، والذي أودع لديه وصيته، يطلب فيها عدم إصدار أي وثيقة تتعلق بالموافقة على زواج ابنه، وذلك حتى يكشف “المؤامرة
والتهديدات التي تم ممارستها عليَّه للحصول على موافقته، كما يدعوه للاحتفاظ بالمستندات كوديعة لديه”.
وفي الرسائل التي يبعث بها دو ساد لزوجته يظهر غيورا عليها، ويطلب منها عندما تأتي لزيارته في “الباستيل” أن ترتدي ملابس محتشمة، ولا تأتي بصحبة أحد من رجال الشرطة، كما يقوم في بعضها بمجادلة خصومه مفندا الجرائم التي ألصقوها به، ويطالبهم بوضعها في حجمها الحقيقي، ومعاقبة الآخرين الذين كانوا طرفًا فيها، وتسببوا فيما وصل إليه، وقد بدا ذلك واضحا في رسالته إلى “إميلي دي بيمار”، التي صارت حماة نجله، ووقعت تحت تأثير سحره حيث كانت تزوره في مصحة “شارنتون”، وصارت مفتونة بشخصية الخارجة عن المألوف، وحاولت أن تهديه إلى الإيمان الديني والأخلاق الاجتماعية بجعله يقرأ كتاب “عبقرية المسيحية” تأليف شاتوبريان”، وقد جاء رده ساخرًا، وراح يسالها مستنكرا، لماذا يعظني الذين يضطهدونني بإله لا يقلِّدونه؟ كم من المرات يجب أن أشكو بمرارة، من مخاوف وهمية يتصورها البعض عنه ولا تستند سوى على افتراءات.
ويذكر “دو ساد” ل “دي بيمار” أن من يضطهدونه ويجعلونه يعاني لم يتمكَّنوا من إضفاء الشرعية على احتجازه الصارخ، فهم يعملون على إثارة الشكوك حوله لدى من لا يعرفونه بأنه ارتكب جرائم أخرى، وينشرون في حقه هو وعائلته كثيرا من الفضائح، وذلك كله بغرض واضح يكمن في أنهم يسعون لإيقافه عن الكتابة، والإمساك بالقلم.
لمزيد من الأخبار زور موقعنا: الوسط العربي