“المشروع الإيديولوجي الإيراني في الشرق الأوسط”.. مرتكزات نظام حكم ولاية الفقيه وآلياته

أحمد عبد الحافظ
سعى الباحث الإماراتي الدكتور جاسم محمد الخلوفي في كتابه “المشروع الإيديولوجي الإيراني في الشرق الأوسط” الصادر حديثا عن دار ميريت للنشر والتوزيع بمصر إلى تفكيك وتحليل نظام حكم ولاية الفقيه في طهران، وامتداداته الإقليمية، وحاول بنظرة شمولية وضعه في سياقه التاريخي السياسي. ليشكل بكتابه مفتاحًا أساسيًّا لصنّاع القرار في المنطقة لمعرفة وفهم مغاليق النظام الأيديولوجي الإيراني، وقراءة عقله السياسي، وتركيبة نظامه الداخلية المعقدة والعصية على الفهم.
وبمقاربة أيديلوجية صارمة عمل الخلوفي على توضيح مرتكزات وآليات وأهداف المشروع الإيراني باعتبارها ضرورة سياسية للتعامل الرشيد مع طهران، وطرق إدارة العلاقات معها، خاصةً وأن الحرس الثوري، “ذراعها المسلح”، هو من يمسك ويدير ملفات المنطقة الخليجية والعربية.
وتناول الباحث الإماراتي، عبر الكتاب الذي تضمن عشرة فصول، بالوصف والتحليل المشروع الأيديولوجي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط من خلال النظر في مرتكزاته ومنطلقاته، وقام بتسليط الضوء على آلياته وأدواته ومؤسساته، وتحليل أهدافه ومآلاته، واستشراف مستقبله.

تداعيات الحرب العراقية الإيرانية
ويحلل الخلوفي في الفصل الثاني متلازمة الدولة والثورة، وأولوية الثورة على الدولة، وإشكالية ازدواجية الخطاب الإيراني، ومركزية دور المرشد الإيراني في عملية صنع القرار، وتبعية مؤسسات الدولة للثورة، مشيرا إلى أن إضفاء الثورة على إيران طبيعة رسالية ذات مهمة إلهية مقدسة أربك وعقَّد من علاقات إيران بالدول المجاورة، وأشعل فتيل الحروب والمواجهات والتوترات في المنطقة.
ولا يكتفي الباحث بذلك، لكنه يولي اهتماما كبيرا ببحث تداعيات الحرب العراقية- الإيرانية التي اندلعت عام 1980، واستمرت ثماني سنوات، على مدركات إيران الأمنية، والتحولات الاستراتيجية التي طرأت على المنظور الأمني الإيراني بعد الحرب، كما يقوم بتقييم تداعيات احتلال العراق للكويت عام 1990، وأحداث 11 سبتمبر 2001، وتأثيراتهما على المنظور الأمني الإيراني، فضلا عن تحليل نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق، عام 2003، وتأثيراته على المدركات الأمنية لإيران، وإبراز طبيعة الخطاب الإيراني تجاه دول الخليج والمنطقة بعد الاحتلال الأمريكي. وكيفية تعامل إيران مع موجة الربيع العربي التي اجتاحت العالم العربي عام 2010-2011، والتي أحدثت تصدعات جوهرية في هيكل النظام الإقليمي العربي.
الخيار النووي وأهدافه
ويذكر الخلوفي أن مساعي إيران لعسكرة برنامجها النووي، وتطوير خيار نووي استراتيجي هدفه الوصول إلى مرحلة من الردع المتبادل، وتأمين حماية جدية لنظامها وثورتها ومشروعها، مع تعظيم أوراقها التفاوضية، واكتساب مكانة مميزة إقليميًّا وعالميًّا، وقد قام انطلاقا من هذه الأهداف بتقييم مدركات إيران الأمنية، وفحص خياراتها، بما في ذلك الخيار النووي، وتناول أذرع وأدوات المشروع الإيراني الإقليمي في لبنان (حزب الله)، والعراق (فصائل وميليشيات الحشد الشعبي)، وتأثيرات الثورة الإيرانية على الأوضاع السياسية في البلدين، وفحص تطور ديناميكيات الحركة الشيعية هناك.
الخيار النووي والنظام السياسي
ويقول الخلوفي إن الخيار النووي الإيراني جاء كقرار استراتيجي لحماية النظام ومشروعه الأيديولوجي وأمنه القومي، وتحقيق الردع المتبادل والتوازن النووي مع إسرائيل النووية والولايات المتحدة، واكتساب مكانة إقليمية متميزة في الشرق الأوسط، ومنع أي هجوم استباقي على منشآتها النووية، وتعويض طهران عن اختلال الميزان العسكري التقليدي، وفرض ترتيبات أحادية أمنية على دول الخليج لقبول الأمر الواقع، وتغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وإحداث تغيير جذري في ميزان القوى الإقليمي لصالحها، وإرغام واشنطن على الاعتراف بها كقوة نووية، وعقد صفقة سياسية كبرى معها، على حساب مصالح دول مجلس التعاون الخليجي.
المشروع الإيديولوجي
ويمثل قيام المشروع الإيراني الأيديولوجي، حسب الخلوفي، تحديًّا كبيرًا للوضع الإقليمي القائم، ويثير شكوكًا حول شرعية الدولة الوطنية والهوية الوطنية الجامعة، وقواعد النظامين الإقليمي والعالمي بعد تنصيب حكام إيران أنفسهم أوصياء وحماة للمذهب الشيعي ومقدساته وأتباعه. وطرحت طهران من خلال مشروعها الأيديولوجي، كمركز وقلب الأمة الإسلامية، ومحور المرجعية الشيعية، وزعيمة الأمة الإسلامية والمستضعفين ضد قوى الاستكبار العالمي، والنظر للشيعة، في مختلف أوطانهم، بوصفهم رعايا تابعون لولي الفقيه، يحظون بالرعاية والحماية الإيرانية ضد “القوى الطاغوتية” التي اغتصبت السلطة منهم.
هذه النظرة الصراعية الاستقطابية الحادة – حسب رأي الخلوفي- تتعارض، بل تقوض مفهوم الدولة القومية الحدودية الحديثة، وتطرح تساؤلات عديدة حول مسألة الهوية الوطنية، وانتماء الشيعة لأوطانهم وحكوماتهم، وتسعى لخلق ولاء عابر للحدود الوطنية يسمو فوق الولاء الوطني والهوية الوطنية. وعليه، ترى إيران أن تصدير الثورة إلى الخارج هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الإيراني للمحافظة على ثورية الإسلام وزخم الثورة. وهذه الرؤية الأيديولوجية الإيرانية إزاء أمنها القومي ساهم في إرباك علاقات إيران الإقليمية والدولية، وانعدام الثقة بمواقفها المعلنة، واتساع الفجوة بين الأقوال والأفعال.
ويشير المؤلف إلى أن ما يزيد الأمر تعقيدًا وصعوبة إمساك الحرس الثوري الإيراني وإدارته ملفات الدول العربية وقضايا السياسة والأمن مع دول الخليج والمنطقة العربية. ما يجعل المقاربة الإيرانية مع الملفات الخليجية والعربية تتسم بجرعات كبيرة من الأدلجة، بينما تتسم المقاربة الإيرانية مع ملفات أمريكا وأوروبا ودول آسيا بالبرجماتية والمرونة السياسية، لأنها تقع ضمن ولاية وإشراف وزارة الخارجية الإيرانية.
ورغم كل هذه المخاوف يرى الباحث أن مستقبل المشروع الأيديولوجي الإيراني مرهون ببروز وتشكيل نظام عربي إقليمي فاعل يقف في وجه التمدد الإيراني في المنطقة العربية، ومستقبله الذي يظل متوقفا على قدرة الاقتصاد في طهران على تمويل مشروعه بعد وصول المؤشرات الاقتصادية الإيرانية إلى معدلات خطيرة ومقلقة، وتردي معدلات التضخم هناك إلى مستويات قياسية بلغت 40%، وفقد العملة الإيرانية أكثر من 70% من قوتها الشرائية، وسقوط 30% من الشعب الإيراني تحت خط الفقر، وعدم حصول ثلث عدد الخريجين الإيرانيين على وظائف.
أثر الاحتلال الأمريكي للعراق على المشروع الإيراني
من تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق، ليس سقوط النظام البعثي العراقي فحسب، إنما تفكك الدولة العراقية ومؤسساتها، وانغمست في صراعات وقلاقل وفوضى داخلية أفسحت المجال لظهور الحركات والقوى الإرهابية، ولم يتحول العراق إلى دولة ديمقراطية متقدمة كما وعدت إدارة بوش، ولم تصبح النموذج الديمقراطي الملهم والجاذب لمنطقة الشرق الأوسط، لكن ما تم كان التركيز على تدمير المؤسسات السياسية الوطنية وتفكيكها، خاصةً الجيش والشرطة والوزارات، وإحداث فراغات سياسية وفوضى سميت “بالبنَّاءة”، لإعادة ترتيب الأوضاع، وإعادة رسم الخرائط السياسية الداخلية بالعراق حسب رؤية المحافظين الجدد، وتجنب الحديث عن الهوية الوطنية العراقية الجامعة، وفرض المحاصصة الطائفية والإثنية على العراق، وإعطاء أدوار كبيرة للشيعة والأكراد، وتهميش المكون السني، وإخراجه من العملية السياسية، واستغلال قانون “اجتثاث البعث” لإقصاء العناصر السنية من القرار السياسي، ما ترتب عليه صعود الشيعة إلى سدة الحكم في العراق.
مكاسب إيران من سقوط العراق
ويقول الخلوفي إن إيران رأت في الاحتلال الأمريكي للعراق وتدمير القدرات الاستراتيجية لعدوها التقليدي، جائزة استراتيجية لها، خاصة في ظل صعود القوى الشيعية العراقية الموالية لإيران وانحسار المكون العروبي السني في العملية السياسية، وتدمير القدرات الاستراتيجية للدولة وتغيير ميزان القوى الإقليمي لصالح طهران، وهو ما حول بغداد لمعبر بري استراتيجي أوصل الإيرانيين إلى منطقة الخليج ومنطقة الهلال الخصيب والبحر المتوسط، وجعل مشروعهم يشهد نجاحات عديدة، واستطاعوا تحقيق نفوذ سياسي واقتصادي وأمني واسع داخل العراق، واستثمروا نفوذههم كورقة ضغط ضد أمريكا، واستغلوا بغداد كساحة للالتفاف على العقوبات الأمريكية، وباتوا الطرف الأقوى نفوذًا وحضورًا، والذي ترغب واشنطن في الحوار معهم بشأن مستقبل العراق وتواجدهم العسكري فيه.
ومن هنا تركز المشروع الأيديولوجي الإيراني على الحيلولة دون بروز عراق قوي ومستقل يمثل تهديدًا لإيران، وحافظ على حكومة حليفة يسيطر عليها الشيعة، وعلى انشغال الولايات المتحدة في المستنقع العراقي لاستنزاف قوتها، واحتواء المشروع الأمريكي في بغداد، وتوريطه في حرب استنزاف طويلة الأمد، وعدم إعطائه الفرصة لتكرار تجربة تغيير الأنظمة بالقوة في منطقة الشرق الأوسط.
وعليه، فإن احتلال أمريكا للأراضي العراقية لا يمثل في وجهة نظر الخلوفي بداية الكارثة للعراق فحسب، بل بداية لكارثة لمنطقة العربية برمتها، بعد إزاحة الحاجز البري الذي يقف في وجه التمدد الإيراني إلى منطقة الخليج والهلال الخصيب، وتدمير الكفة الموازنة للقوة الإيرانية في ميزان القوى الإقليمي، بعد أن تلخصت طهران من نظام صدام حسين، وتحول بغداد إلى نظام يحكمه الشيعة الموالون لإيران، واستغلال الوجود الأمريكي الكثيف باعتباره رهينة حال تدهورت العلاقة بينها وبين واشنطن أو إسرائيل، وتجميد نشاطات منظمة مجاهدي خلق المعارضة للثورة الإيرانية في العراق، وربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الإيراني، وإيجاد أسواق جديدة كبيرة لتصدير منتجات إيران، وزيادة تبعية العراق لطهران اقتصاديًّا.
لمزيد من الأخبار زوروا موقعنا: الوسط العربي وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك الوسط العربي