الدب الروسي في مواجهة “رجل أوروبا المريض “

تحليل ومتابعة: محمد عطا
الحرب الروسية الاوكرانية والحصار الغربي المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية الممثلين فى قوات الناتو، فرض على موسكو نقل الصراع من شرق أوروبا إلى توسيع نفوذها فى غرب القارة الأفريقية دول الساحل والصحراء مكان فرنسا ، التى تواجه استياء أفريقي غير مسبوق وتم طردها من العديد من الدول وحلت مكانها قوات فاجنر الروسية .
وقوات فاجنر هى شركة خاصة ترتبط ارتباط وثيق بالجيش الروسي وتعد فرعا خارجيا له لتحقيق المصالح الروسية فى العالم وتمولها الدولة الروسية ،ولها تواجد قوى فى أفريقيا وخاصة فى مالي وافريقيا الوسطى وبوركينا فاسو.
ورغم تنامي النفوذ الروسي خلال السنوات الأخيرة ، من خلال الوجود المكثف لمجموعة فاجنر، في عدد من البلدان الإفريقية المضطربة، مثل إفريقيا الوسطى ومالي اللتين كانتا تاريخيا من أبرز المراكز الفرنسية في إفريقيا، فإن باريس لا تريد التخلى كليا عن نفوذها الأمني الكبير في المنطقة التي أولتها أهمية كبيرة في استراتيجياتها العسكرية خلال السنوات الماضية، وبدأت تغيير خططها بعد الصدمات التى تلقتها فى المنطقة لمواجهة النفوذ الروسي المتزايد .
وحسب مراقبون للمشهد الفرنسي الأفريقي ،فباريس وقعت اتفاقيات تعاون عسكري مع أكثر من 40 دولة إفريقية، ولديها قواعد عسكرية وبحرية في مواقع استراتيجية مختلفة في القارة،ونفذت خلال العقود الست الماضية أكثر من 60 تدخلا عسكريا في إفريقيا.وتعرضت بلدان القارة لأشكال مختلفة من الاستغلال الاستعماري وأعمال التخريب خلال الفترة التي أعقبت الاستقلال فى فترة الستينيات ، حيث واصلت الدول المستعمرة استنزاف الموارد من خلال صناعة قيادات موالية لها.
وبالفعل حظيت روسيا بقبول كبير فى القارة السمراء ،خاصة فى ظل اتساع موجة طرد القوات الفرنسية والمتغيرات الكبيرة التي تشهدها المنطقة، في أعقاب الانقلابات العسكرية بكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر من جهة، وتزايد موجة الاستياء الشعبي من الوجود العسكري الفرنسي في عدد من بلدان المنطقة من جهة أخرى.
وحسب مراقبون للمشهد الأفريقي فإن المزاج العام لن يعد يقبل بالاستعمار الغربي ، فالحملات الشعبية الواسعة التي تدعو إلى خروج فرنسا من أفريقيا، هناك موجة مضادة تزداد اتساعاً، وهي الموجة التي ترحب وتطالب بالوجود الروسي في دول الساحل والصحراء ،فوجود عناصر فاجنر الروسية في هذه الدول وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية موزمبيق لم يعد سراً، بل هو بارز في الأماكن الحيوية والمهمة؛ المطارات والمناجم وبعض المعسكرات وحتى في بعض الدوائر الحكومية.
وبينما تتحرك روسيا أمنياً وعسكرياً عبر توسيع وجود قوات فاجنر الذراع العسكرى لها خارجيا في دول الساحل والصحراء وشمال أفريقيا، ،فإن الانقسام الأوروبي المتزايد يضيف إلى قوة الوجود الروسي في القارة الأفريقية ،حيث شنت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني هجوما العنيف على فرنسا ، من خلال حديثها عن الماضي الاستعماري الفرنسي للقارة الأفريقية ونهبها الذي لم يتوقف لثرواتها كما قالت، يكشفان حجم الخلاف بين أطراف دول الاتحاد الأوروبي حول أفريقيا.
وسبق أن نشرت باريس في أوج حضورها في منطقة الساحل متذ 2013 ، قوة “برخان ” التي وصل عددها إلى 5500 رجل متمتعة بدعم لوجيستي وجوي ومخابراتي، ومنتشرة ، أرغمت تباعاً على الخروج من مالي ثم من بوركينا فاسو، من النيجر وهناك دول أخرى فى الطريق ، حيث رحل آخر جندي فرنسي يوم 22 ديسمبر الماضي عن نيامي وقررت باريس اغلاق سفارتها.
وأسرعت موسكو فى إعادة تنظيم صفوف “فاغنر” وإعطائها تسمية جديدة “أفريكا كوربس أو القوة الأفريقية” ، وهو ما يدل على رغبتها في الاستفادة من الفراغ الفرنسي في المنطقة وعزمها على تعزيز حضورها رغم غياب قائدها التاريخي يفجيني بريجوجين، والذى لاقى مصرعه بعد تفجر طائرته بعد أيام من تمرده على الجيش الروسي فى أغسطس الماضي ، ومنذ اليوم يبدو الحضور الروسي ظاهراً في مالي، وأيضاً في بوركينا فاسو قويا ولافتا.
وحسب منابعون فإن العلاقات الروسية الافريقية انقطعت العقدين الماضيين بسبب الظروف التى مرت بها وانهيار الاتحاد السوفيتي، وبدأت موسكو فى تحسين العلاقات مع القارة السمراء منذ عام 2000 وحتى 2013 ، وهى المرحلة الأولى من العلاقات بين الطرفيين ، سعت موسكو للبحث عن شركاء لتعزيز رؤيتها لإقامة نظام متعدد الأقطاب، بعد استقراها السياسي والاقتصادى محليا ،حيث بادرت طريقها إلى القارة من خلال التركيز على جنوب أفريقيا والاتحاد الأفريقي، ودشنت تحالف رباعي سمته “البريكس” قبل أن يتوسع فيما بعد ،بجانب موسكو الهند والبرازيل وجنوب افريقيا، وعززت روسيا علاقاتها مع الاتحاد الأفريقي من خلال بعثات حفظ السلام، ومن خلال مشاركتها في فرقة لمكافحة القرصنة قبالة الساحل الصومالي .
أما المرحلة الثانية بدءاً منذ عام 2014، اتبعت روسيا سياسة خارجية هجومية في أعقاب العقوبات الغربية التي فُرضت عليها نتيجة لضمها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ، فى محاولة جذب شركاء استراتيجيين جدد للتخفيف من آثار العقوبات،وإثارة قلق القوى الغربية عن طريق ضمان انشغالها بمناطق أخرى.
أما بالنسبة لأفريقيا، فلقد تجلى اهتمام روسيا المتزايد بالقارة من خلال القمة الروسية الأفريقية في أكتوبر 2019 في سوتشي، والتي جمعت 43 رئيس دولة أفريقية.
ووقعت روسيا اتفاقيات للتعدين والنفط والاستثمار والطاقة النووية والتعاون العسكري بقيمة 12.5 مليار دولار مع حكومات أفريقية مختلفة ،وحصل التعاون العسكري على النصيب الأكبر من الاهتمام، مع الأخذ في الاعتبار أن روسيا قد باعت آنذاك 13٪ من أسلحتها لأفريقيا . ويتزامن هذا مع النهج الروسي في أفريقيا الذي أطلق عليه المراقبون “السلاح أولاً “التجارة لاحقاً”. ولقد تضمن هذا النهج تنمية العلاقات مع القيادة السياسية الحاكمة قبل توالي العلاقات مع القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية الأخرى، وهو ما حدث في أنجولا وموزمبيق وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومؤخراً في مالي .
وتعد روسيا أكبر مورد أسلحة لأفريقيا بنسبة 44 % بين عامي 2017 -2021 ،وصدرت موسكو أسلحة إلى 22 دولة أفريقية من أصل 54 في تلك الفترة، تليها الولايات المتحدة بنسبة 17% والصين 10% ثم فرنسا 6.1%.
وتمتلك روسيا اتفاقيات تعاون عسكري مع 36 دولة أفريقية تتنوع بين توريد الأسلحة والتدريب وبناء القواعد العسكرية والاستشارات الأمنية والدفاعية، ست اتفاقيات منها وقعت عامي 2021 و 2022 مع إثيوبيا والجابون وموريتانيا ونيجيريا ومدغشقر والكاميرون، وعشرون خلال الفترة بين 2017 – 2021، نصفها على الأقل مع دول لم تربطها علاقات سابقة مع روسيا، وهو ما يؤكد تزايد الاهتمام بالقارة، كما قدمت روسيا دعما عسكريا وأمنياً مباشراً لحلفائها عبر قوات فاجنر منذ عام 2017، في دول أفريقيا الوسطى وموزمبيق وليبيا والسودان ومالي وبوركينا فاسو.
وتلعب مجموعة فاغنر الدور الرئيسي فى المساعى الروسية للسيطرة على افريقيا ، حيث بدأت منذ عام 2017 بالعمل كمستشارين في عدد من الدول الأفريقية، ثم تطورت المهام لتقديم خدمات حراسة للرؤساء والمسؤولين بجانب التدريب وتقديم المشورة والمساعدة لقوات الأمن المحلية، وحتى المشاركة مباشرة في القتال، وتعتمد قوات مجموعة فاجنر على التمويل الذاتي المرتبط بمموليها الخاصين والعقود الاقتصادية التي تجريها في الدول المعنية، ولا تكلف الإدارة الروسية أي أعباء مالية.
