أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي.. معكم في المعركة

تقرير : أحمد عبد الحافظ
يتتبع الكاتب كريم جمال في كتابه “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” رحلات كوكب الشرق شرقا وغربا، شمالا وجنوبا ويرصد ما كان منها، وكيف بدت حفلاتها، وكيف استقبلتها الجماهير المحبة لفنها في كل مكان ذهبت إليه، وقد جاء الكتاب في أكثر من 600 صفحة و17 فصلا، اختتمها المؤلف بملحق بسجل الحفلات، والكثير من الصور التي تم التقاطها في رحلاتها، ولقاءتها التي دارت بينها وبين صحفيين بارزين من مصر وأوروبا والبلدان العربية، وقد تركوا أرشيفا ضخما وجد فيه “المؤلف” الكثير مما يحكى عن فنانة مصرية بذلت عشر سنوات من عمرها منذ عام “النكسة” وحتى ما قبل رحيلها بعام في حركة فنية دائبة تغني للجماهير، وتلتقي الرؤساء والملوك وتسعى من ضمن ما تسعى إليه لتزيل بعضا من أسباب الجفوة التي كانت تطرأ بينهم وبين الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
تسليح جيشها
صدر الكتاب حديثا عن دار تنمية للنشر والتوزيع المصرية، ويوثق خلاله ما جرى وأحاط بالرحلات التي قطعتها كوكب الشرق بحثا عن العملات الأجنبية التي كان تحتاجها مصر لإعادة تسليح جيشها وتجهيزه لاسترداد الأراضي التي احتلتها اسرائيل بعد عام 1967، كانت كوكب الشرق بدأت ذلك مبكرا وبعد أيام قليلة من وقوع النكسة، وقامت يوم ٢٠ يونيو حزيران ١٩٦٧ بتحويل شيك بمبلغ ٢٠ ألف جنيه إلى خزانة الدولة المصرية بسرية تامة، ولولا تسريب أحد العاملين للخبر ما عرف أحد من الشعب المصري بذلك، وقد توالت بعد ذلك في ضخ الأموال التي جمعتها من رحلاتها، وأضافت إليها مجوهرات قُدرت ب 20 كيلو من الذهب الذي كان يتم تحويله إلى عملات أجنبية.
وفي فصل بعنوان “أم كلثوم معكم في المعركة” قال جمال إن دور أم كلثوم في دعم الجيش المصري لم يتوقف عند حدود الدعم المادي، لكنها سجلت خلال مايو آيار ١٩٦٧، في الإذاعة المصرية سبع نداءات حماسية كانت تبث في نهاية مايو آيار، والأيام الأولى من شهر يونيو حزيران ١٩٦٧، كانت النداءات موجهة بشكل مباشر للجنود على جبهة القتال بعد قرار التعبئة العامة، وظهور بوادر الحرب بعد غلق مضيق العقبة، وكان الهدف منها بث الحماسة فيهم ورفع روحهم المعنوية، وقد نشرت مجلة الكواكب نصوص النداءات وسعى المؤلف من خلالها لتقصي حالة كوكب النفسية وما كانت عليه وقتها.
خطاب تنحى عبدالناصر
ويتعرض الكتاب لما فعلته كوكب الشرق بعدما سمعت خطاب تنحى عبدالناصر يوم ٩ يونيو ١٩٦٧، حين أدركت هزيمة الجيش المصرى والعربى، وقولها إنها أبت أن تستسلم لليأس بعد النكسة، لم يكن أمامها إلا أمرين، الأول أن تلتزم الصمت، وتقبع فريسة الانهيار النفسى، والثاني أن تمضي بصوتها، وتبذل ما تستطيع من جهد من أجل المعركة، وقد اختارت الأمر الثانى.
ويبرز الكتاب وقع الهزيمة على أم كلثوم، فهي لم تتوقع انتكاسة خاصة بعدما اطمئنت من قائد الجيش عبد الحكيم عامر في لقائها معه الذي استمر 15 دقيقة حين طلبت الجلوس معه لتتعرف على حالة الاستعداد، ويذكر المؤلف أن أم كلثوم أصيبت بالذهول بعد النكسة، وانسحبت فور علمها بالخبر المزلزل من جلستها العائلية، ونزلت إلى “بدروم” فيلتها، لتبحث فيما جرى عن حل للأزمة التي تحيط بها وبالوطن من حولها، ولم يستمر وجودها هناك طويلا فقد قررت أن تقوم بما عرفه العالم كله، وخلد اسمها عبر التاريخ.
بدأت فكرة جديدة للتبرع
ويحكي جمال عن أول حفلة بدأت بها كوكب الشرق المجهود الحربي، وكانت في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة شمال مصر، ووصلت إيراداتها التي جمعتها إلى 70 ألف جنيه، بعدها انتقلت إلى الاسكندرية، وهناك بدأت فكرة جديدة للتبرع، حيث أقام منظمو الحفل مزاردا على كراسي المسرح، وكان المتحصل منها يفوق أضعافا مضاعفة قيمة التذكرة. بعد ذلك ذهبت في نوفمبر تشرين الثاني إلى باريس، وكانت أول مطربة عربية تغني على مسرح الالمبياد وهناك قدمت حفلين، غنت في الأول ثلاث أغنيات هي “انت عمري” و”الأطلال”, و”بعيد عنك”، تخللتها استرحتين قصيرتين، وقد بدأ الحفل فى تمام الساعة التاسعة و25 دقيقة، واستغرقت ما يزيد على خمس ساعات، وكان كوكاتريكس مدير المسرح يظن أنها سوف تنهي وصلتها الغنائية بعد عشرين دقيقة، لأنها عند اتفاقها معه في القاهرة قبل النكسة بشهور كانت أخبرته أنها سوف تغني أغنيتين أو ثلاثة على الأكثر، وكان هو يعتقد حسب معرفته بالاغنية الأوربية ان كل أغنية لن تستغرق أكثر من خمس دقائق، لكنه فؤجئ بزمن كل أغنية قدمتها على خشبة المسرح.
كانت حفل باريس بالنسبة لأم كلثوم أول انطلاقة لها لأوروبا، وقد حضره، الكثير من الملوك والرؤساء والأمراء والشخصيات الهامة سواء كانوا عربا أو أجانب، وكان بينهم 500 من اليهود المغاربة الذين فور علم “كوكاتريكس” بوجودهم شعر بالقلق، وقام بتعزيز الوجود الأمني حولهم، لكنه حين بدات أم كلثوم في الغناء فوجئ باندماجهم، وهم يستمعون الأغنيات، وكانوا يتجاوبون بالتصفيق تعبيراً عن إعجابهم، حينها ذهب إليهم، وسألهم عن سر اعجابهم بصوت أم كلثوم لهذه الدرجة، وهى تطالب بضرورة التصدى لليهود ومحاربتهم ؟، فردوا عليه بأن “أم كلثوم أعظم مطربة فى التاريخ، ولا يمكن إنكار هذا وأنها تمتعهم بفنها وطربها الأصيل وهذا أمر لاعلاقة له بالأمور السياسية”.
بعد منتصف الليل
في فصل بعنوان “بعد منتصف الليل كانت أم كلثوم لا تزال تغني” تحدث جمال عن رحلة باريس نوفمبر ١٩٦٧، وأشار إلى حوار تاريخي جمع أم كلثوم وهيكل نشرته مجلة “آخر ساعة” المصرية في عدد ٦ ديسمبر ١٩٦٧، ويكشف من خلاله نظرة دولة عبد الناصر لأم كلثوم.
في بداية الحوار سألت أم كلثوم، “هيكل” عن مجريات السياسية في العالم، وتطورات القضية العربية التي كانت مازالت مشتعلة منذ عدوان ٥ يونيو، وعن دور الأمم المتحدة في أزمات الشرق الأوسط، ودور مجلس الأمن في حل قضايا الشعوب وتحديدًا قضية اللاجئين، وهي القضية التي صارت جزء من نشاط أم كلثوم المنتظم في سنوات المجهود الحربي، ويتضح من نص ردها أنها تعي جيدًا أبعاد تاريخها المأزوم منذ عام النكبة في ١٩٤٨، ثم سألته أم كلثوم عن الدور المتوقع لمؤتمر القمة القادم، ومدى ارتباطه بمؤتمر القمة السابق في الخرطوم في أغسطس ١٩٦٧، وعن رؤيته السياسية لخطاب الرئيس جمال عبد الناصر الأخير الذي ألقاه في «مجلس الأمة» في ليلة ٢٣ نوفمبر ١٩٦٧.
لكن أهم ما في الحوار هو سؤال هيكل لأم كلثوم: “كيف استطعتِ إلغاء الفارق بين السياسة والفن؟ وهذا السؤال يحمل نظرة واضحة وصريحة لطبيعة دور أم كلثوم بعد الهزيمة، حين تشابك دورها الفني السياسي، وذلك لطبيعة مكانة هيكل في دولة جمال عبد الناصر قبل وبعد الهزيمة، هذا الحوار يعتبر مُلخص كامل لحقيقة دور أم كلثوم الوطني بعد ١٩٦٧، فالجمع بين الدور الفني والسياسي أمر معقد ويحتاج إلى حساسية في ابقاء شعرة بين القيام بالواجب والتبعية العمياء، لذلك حين ردت كوكب الشرق على هيكل بأنها مجرد مواطنة تحب وطنها، كان جوابه “هذه إجابة معقولة، لأن السياسي هو أي إنسان تتعدّى اهتماماته حدود مصلحته الخاصة.
شخصية ذات أبعاد كثيرة
ويشير الكتاب إلى أن أم كلثوم كانت شخصية ذات أبعاد كثيرة، فقد قدمت لها وزارة الخارجية جواز سفر دبلوماسيا ليتم استقبالها فى كل دول العالم استقبالا رسميا باعتبارها سفيرة لمصر، وقد أخذت قصة منحها جائزة الدولة التقديرية بعد ٩ سنوات من ترشحها لها دول طائل، بعدا سياسيا أيضا، فقد كانت ضوابط الجائزة، لا تعتبر الغناء عملا إبداعيا، لكن وزارة الثقافة وجهت أعضاء المجلس الاعلى للفنون والآداب وقتها لتمنحها لها فى الفنون عام 1968، تقديرا لجهودها ورحلاتها التي قامت بها دعما للمجهود الحربي.
وعن رحلتها إلى تونس خلال شهر مايو آيار، قال المؤلف إن كوكب الشرق التقت الزعيم التونسي الحبيب بورقيبه وجلست معه ساعة كاملة لتزيل بعضا مما شاب العلاقة بينه وبين عبد الناصر، وقلدها بورقيبة أكبر وساما في تونس، وحضر أول حفلة، ثم ودعها بنفسه لدى مغادرتها بلاده، ثم اتجهت إلى السودان في ديسمبر كانون الاول 1968، وبعدها كان الطريق إلى ليبيا، وثم لبنان، وكانت آخر حفلاتها في أبو ظبي، وحينها حضرت رفع علم الوحدة الإماراتية عام 1971، وكانت وقتها تجاوزت السبعين من عمرها، أما عن رحلتها للاتحاد السوفيتي، الذي زارته نهاية سبتمبر ١٩٧٠، فقد قطعتها بسبب رحيل عبدالناصر، وعادت بملابس الحداد.
بمساندة بلادها ضد إسرائيل
ورغم أن كل ما يرتبط باسم أم كلثوم يتصل بمساندة بلادها ضد إسرائيل، إلا أن تراثها كان مؤخرا مثار اتهامات ألقت بها حفيدتها جيهان الدسوقي، في حق شركة “صوت الفن” التي تمتلك حقوق استغلال أغاني كوكب الشرق، وذكرت أنها باعت حق استغلال أغانيها إلى إسرائيل”.
ورد المنتج محس جابر، صاحب شركة “صوت الفن” على الاتهام الموجه له، موضحا أنه اشترى تراث أم كلثوم لأن إحدى الشركات الخليجية كانت ستشتريه، وقال حين أدافع في آخر الدنيا عن حقي لا يجب أن يعاتبني أحد، وأي شخص يعتدي على عملي حتى داخل إسرائيل لا أتركه”.
