مصير الأكراد في سورية: بين التهديد التركي والرهانات الإقليمية

الأحداث في شمال شرق سورية تتحرك بوتيرة بطيئة لكنها حاسمة، فالمناطق الكردية شرقي الفرات لم تعد احتمالاً سياسياً مفتوحاً، بل مساراً واضحاً نحو لحظة انفجار محتملة. أنقرة ودمشق تتحركان باتجاه هذه المناطق، وكل منهما يعتبرها امتداداً لمصالحه المباشرة: تركيا تراها ضرورة أمنية لقطع الطريق على حزب العمال الكردستاني، وسورية تعتبرها آخر قطعة مفقودة لاستعادة السيطرة الكاملة. وبين الطرفين، يتشكل فراغ خطير قد يتحول إلى ساحات قتال مفتوحة، مع مخاطر مدمرة على المستوى العسكري والإنساني، واحتمالات تكرار سيناريو عفرين عام 2018، حين تم تهجير أكثر من 150 ألف كردي وتغيير البنية الديموغرافية بالقوة.
شريط حدودي يعيد رسم المنطقة
المناطق الكردية شرقي الفرات ليست هامشاً جغرافياً يمكن تجاوزه، بل شريط استراتيجي يمتد لأكثر من 900 كيلومتر على الحدود التركية، ويشكّل فاصلاً حساساً بين النفوذ التركي شمالاً، والنفوذ الأميركي شرقاً، والنفوذ السوري جنوباً. سقوط هذا الشريط بيد أنقرة ودمشق سيمنح تركيا امتداداً جغرافياً متصلاً من جرابلس إلى الحسكة، ما يضع ضغطاً مباشراً على العمق العراقي في الموصل وكركوك، ويقرب النفوذ التركي من الحدود الإيرانية عند جبال قنديل.
هنا تصبح القضية الكردية شأناً عراقياً وإيرانياً بقدر ما هي سورية. فدفع الأتراك جنوباً سيعني اقترابهم من المناطق الحيوية للعراق والحدود الغربية لإيران، وهو تطور لا يمكن لأي دولة في الإقليم تجاهله.
إسرائيل والفراغ الكردي
في المقابل، يدرك الأكراد أنهم إذا تُركوا وحدهم، فإن الدعم الإسرائيلي سيصبح الخيار الوحيد المتاح. تل أبيب ترى في الوجود الكردي على حدود سورية والعراق فرصة استراتيجية لبناء حاجز عرقي يفصل إيران عن المتوسط. هذا المسار ليس جديداً، بل امتداد لدعم إسرائيل لتمرد الملا مصطفى البرزاني في الستينيات، وصولاً إلى تعاونها الحالي مع بعض الفصائل الكردية. ومع غياب دعم عربي أو إيراني أو عراقي، سيغدو التوجه نحو إسرائيل مسألة وقت لا أكثر.
وهنا يكمن جوهر الخطر: تمركز نفوذ إسرائيلي على بُعد أقل من 120 كلم من الموصل، واقترابه من الحدود الإيرانية عبر جماعات مسلحة موجودة أصلاً في تلك المناطق.
ضرورة المطالبة بالحكم الذاتي الكلي
في ظل هذا المشهد، لم يعد بإمكان الأكراد الاكتفاء بصيغة “إدارة ذاتية” محدودة أو منقوصة. التهديد التركي–السوري المزدوج، واحتمال تركهم بلا دعم إقليمي، يفرض عليهم الانتقال إلى المطالبة بحكم ذاتي كليّ داخل سورية، يضمن إدارة الأمن والموارد والحدود المحلية، مع بقاء الانتماء السياسي للدولة السورية. هذا ليس طرحاً انفصالياً، بل مقاربة عملية للبقاء.
الحكم الذاتي الكامل سيمنح الأكراد القدرة على بناء قوة رادعة تمنع التهجير والتذويب الديموغرافي، ويحوّل مناطقهم إلى كيان مستقر قادر على مواجهة الضغط التركي، ويساعد على إعادة بناء توازن داخل سورية. والأهم أنه يحوّل الشريط الحدودي إلى منطقة عازلة تحمي الجميع: سورية من التمدد التركي، العراق من الاختراق الشمالي، وإيران من التغلغل الإسرائيلي.
مصلحة العراق وإيران
على بغداد وطهران أن يدركا أن ترك الأكراد وحدهم ليس خياراً. فالمعركة في شرقي الفرات ليست معركة كردية فقط، بل معركة تتعلق بتحصين الأمن القومي للعراق وإيران. الدعم اللوجستي والسياسي والاقتصادي للأكراد قد يمنع تمدد تركيا جنوباً، ويغلق الباب أمام أي نفوذ إسرائيلي في تلك المنطقة الحساسة. أما تجاهلهم فسيخلق فراغاً يُملأ تلقائياً بأنقرة وتل أبيب، وهو سيناريو قد يغيّر الجغرافيا السياسية بالكامل من حلب حتى زاخو.
خاتمة
مصير الأكراد شرقي الفرات ليس تفاصيل محلية في الصراع السوري، بل نقطة مفصلية في توازن الشرق الأوسط كله. دعمهم يمنح سورية والعراق وإيران جداراً صدّاً أمام التمدد التركي والإسرائيلي. أما تركهم وحيدين فسيحوّل الشريط الحدودي إلى منصة صراع جديدة قد تمتد آثارها لعقود.
وفي قلب هذا المشهد، تبدو المطالبة الكردية بالحكم الذاتي الكامل ليس خياراً سياسياً، بل ضرورة وجودية لعشرات السنين المقبلة.