عاجلمقالات

خالد محمد علي يكتب : البرهان وإدارة الغضب

 

في تعليقه بإحدى القنوات الفضائية على حالة الاستنفار الشعبي في السودان، وتدفق آلاف المتطوعين إل مراكز الاستنفار للحصول على السلاح دفاعًا عن مدنهم في مواجهة الدعم السريع، قال نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، إننا في المجلس نحاول إدارة هذا الغضب، وليس التسليم به لأننا لا نريد أن يقع السلاح في ايدي مجموعات يمكنها أن تضيف مشكلة أخرى في السودان. وجاء تعبير إدارة الغضب ليعكس تحركات الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، الذي يتحرك كلاعب محترف بين حقول ألغام السياسة في الداخل والخارج، وبين كمائن الألغام والصواريخ وعربات الدفع الربع الرباعي التي يهاجم بها منسوبي الدعم السريع في كل زمان ومكان على أرض السودان.

ويوصف مالك عقار، الذي كان رئيسًا للحركة الشعبية قطاع الشمال، والتي كانت تقاتل الجيش السوداني مع حركة جون كرنك في الجنوب، واستمرت في تمردها على الجيش حتى بعد انفصال الجنوب، وعقد اتفاق السلام مع الشمال، لكنه عاد كما يقول بعد أكثر من ثلاثين عامًا من التمرد على الجيش ليعود بأفكار جديدة حول وحدة السودان، ووحدة الثقافة والهوية، وحول إدارة أمزجة الشعب المختلفة والتي تتنوع بتنوع القبائل الإفريقية، والعربية، وعرب الشتات.

وهو الأكثر التصاقًا بالفريق البرهان، والأكثر تعبيرًا عن الرجل، وهو أيضًا من يخرج للشعب السوداني ليقول ما يريده البرهان، ويتجنب آثاره، وقد كان لي لقاء أخير مع عقار في القاهرة منذ ثلاثة أشهر أو أكثر، ولاحظت تلك الخبرات الثقافية والسياسية التي اكتسبها الرجل بعد أن كان مقاتلًا عسكريًا مهنيًا لا يعرف إلا حديث البندقية. وعملية إدارة الغضب في السودان لا تحتاج الفريق البرهان، أو نائبه، مالك عقار فقط، لكنها تحتاج أن تصطف كل النخبة السودانية الوطنية التي أيضًا يجب أن تكون قد تعلمت الكثير من فنون السياسة وإدارة الشعوب كي يصطف الجميع حول ضبط المزاج الشعبي السوداني والغضب ليسير الجميع في مسارات محددة حول كيفية الحفاظ على وطن تتداعى عليه الأمم، وتحاول أن تقضمه قضمة قضمة.

وكل متابع للشأن السوداني يعرف أن هذا الشعب الطيب يمتاز بصفات نبيلة وعظيمة من بينها الانفعال التلقائي الذي قد يكون مقبولَا لدى عامة الناس، ولكنه أبدًا لا يكون كذلك مع إدارة الدولة، لأن المخاطر الكبرى التي تواجه السودان الآن لايمكن تداركها إذا ما أقدم صناع القرار على قرارات بدافع الغضب، فهناك أكثر من 250 ألف مقاتل ينشطون تحت إدارة قائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي، وهم ينتشرون ويسيطرون على مفاصل الدولة السودانية بعد أن كانوا جزءًا من الجيش السوداني، واستغلوا تكليفهم بحراسة مؤسسات الدولة الرسمية والاستراتيجية أثناء الثورة، وحشدوا كل أسلحتهم وعساكرهم داخل وحول تلك المؤسسات من مطار الخرطوم إلى مقار القيادة العامة، إلى رئاسات الفرق العسكرية في الخركوم وحولها، وبالتالي كان منطقيًا إعلان سيطرتهم على تلك المقار والمواقع التي هي بالأساس تحت أيديهم.

وهي المرة الأولى التي يشهد فيها السودان غزوا عسكريا من الداخل يحتل البيوت والشوارع والمدن، ويمسك بالمدنيين رهائن تحت قبضته ويستخدمون أساليب الغزو السريع عبر سيارات الدفع الرباعي التي تنطلق بسرعة مذهلة بين الشوارع والأزقة لتقتل كل من تصادفهم وتسيطر على الأماكن. ولأن الشعب السوداني ذاق مرارة الغزو والاستيلاء على أمواله كان طبيعيًا أن ينتفض غاضبا يحاول الحصول على السلاح للدفاع عن نفسه وعرضه وأرضه، وهو يستعجل النصر والتحرير لأن الجيش لا يستطيع أن يستخدم كل قوته العسكرية من طائرات ودبابات وصواريخ لضرب قوات الدعم داخل البيوت ومؤسسات الدولة لأنه إن فعل ذلك سيدمر الخرطوم وسوف يقضى على العدد الأكبر من المدنيين، وهو ما يحاول بكل قوة أن يتجنبه عبر خطط طويلة للتحرير، وهو ما جعل المعركة تطول لكل هذه الفقرة منذ 15 أبريل وحتى الآن.

ويخشى الفريق البرهان أن يتم تسليح عامة الناس للدفاع عن مدنهم ثم تتحول فيما بعد النصر تلك المجموعات إلى حركات مسلحة أخرى يمكنها التمرد على الدولة والجيش، وبالتالي ندخل في نفس الدائرة التي يعاني منها السودان منذ إعلان استقلاله في يناير 1956، حيث لم تتوقف تشكيل الحركات المسلحة المتمردة على الجيش والدولة بداية من ذلك التاريخ وحتى إعلان تمرد الدعم السريع على الجيش. ويبدو أن البرهان يحاول جاهدًا استرضاء شعبه من ناحية عبر الاستنفار المضبوط الذي يسمح بالتحركات تحت قيادات سابقة للجيش، والذي يضمن أن تكون كل قطعة سلاح بيد المواطنين تحت رقابة الجيش. وهكذا جاء حديث مالك عقار هادءًا في مواجهة حالة الغضب المنتشرة داخل المدن السودانية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، والتي تحتج على بطئ تحركات القوات المسلحة في تسليح المواطنين والدفع بهم في ميادين القتال.

وفي تقدير المختصين بالشأن السوداني، أن ما حدث من البرهان هو بداية لاتباع الطرق العلمية في إدارة الصراع بالسودان بدلًا من أن ينساق القائد خلف الغاضبين من عامة الشعب وهو الأسلوب الذي اعتدنا أن نراه في الماضي، حيث يسبق القائد الشعب في الهتاف والغضب. البرهان إذا يدير الصراع كلاعب محترف على كافة الجبهات، وهو ما يؤشر بوضع السودان على بداية طريق التنمية بعد النصر، ويبشر بقيادة حكيمة في أصعب فترات السودان.

زر الذهاب إلى الأعلى