ديمقراطية الصين شكل ثاني

كتب مصطفى السعيد :
نقسم طريقة اختيار ممثلي الشعب ومن يتولون المناصب في الصين عن أي دولة أخرى في العالم، فهي ليست ديمقراطية صندوق الإنتخابات إلا في القاعدة فقط، التي تضم مليارا ونحو 300 مليون إنسان، أي في بلد ضخم في عدد السكان والمساحة، لا يمكن فيها أن تعرف من هم المرشحون، ولا برامجهم ولا سيرتهم، وتقتصر الإنتخابات عبر صندوق الإنتخابات في القرى والأحياء التي يعرف فيها الناس بعضهم بعضا عن قرب. أما في المستويات العليا، فالإختيار يكون بطريقة لا تنظمها أي دولة، تسمى أسلوب “الجدارة”، وفيها يجري الإختيار عن طريق إمتحانات عسيرة وطويلة تكشف ما أنجزه كل مرشح في حياته.
ويتولى التقييم والإختبارات عدة لجان من الخبراء المتنقلين والمتغيرين تستجوب وتراجع إنجازات كل مرشح لمنصب، ما هي خبراته، ما هي المجالات التي حقق نجاحا فيها، ماذا حقق من نتائج، مستواه العلمي، سلوكه الشخصي، سمعته في منطقته، ولا يمكن أن يترقى أي مرشح إلا إذا كان قد تولى منصبا في تسيير وتطبيق خطة ناجحة في حي أو قرية أو مدينة، وحقق نجاحا فيها، فالعبرة تكون بما أنجزه بالفعل، وما لديه من أفكار لحل مشكلات المجتمع، ويمكن التحقق مما يقوله، فالحكم المحلي هو السلم الذي يقود إلى المناصب العليا، والذي يقيس المهارات والقدرات بشكل عملي، فلكل مقاطعة ميزانية، ولها خطط وأهداف، ويجري قياس ما تم إنجازه، فإذا حقق المجلس المحلي لقرية نتائج إيجابية واضحة في التنمية الحقيقية، ومشروعات خدمية وإنتاجية ناجحة، ولم يحقق أي من أعضائها مكاسب شخصية، ولا عين معارف ولا أقرباء، ولا حقق ثروة من وراء منصبه، يكون المتميز منها جدير بالترقي إلى المستوى الأعلى لإدارة مدينة، ثم مقاطعة، ثم مقاطعات كبرى والعاصمة، ولا تتحقق تلك المعايير إلا عبر لجان متنوعة، وفي استجوابات طويلة، ويحصل على درجات من كل لجنة.
والرئيس الحالي شي بينج مر بكل تلك المراحل، وتعرض لرفض انضمامه إلى الحزب الحاكم 7 مرات، ليبدأ رحلة طويلة عبر الخدمة في قرية نائية، ويمارس الزراعة مع الفلاحين، ويسكن كهف مثل حفرة، وينام على القش، وكانوا يسخرون منه في البداية لأنه لا يجيد العمل، لكنه أثبت طوال 7 سنوات من العمل في ظروف صعبة، واكتسب حب وسمعة طيبة في القرى التي عمل فيها، وتولى مناصب في إدارة القرية، وحقق نجاحا ملفتا، وترقي إلى إدارة مدينة، حتى وصل إلى إدارة العاصمة، وكان قد حصل خلال عمله على شهادة جامعية في الهندسة. هذا باختصار تصور الصين للديمقراطية المناسبة لها، التي يرونها أفضل من ديمقراطية الصندوق وحدها، والمطبقة في معظم دول العالم، يجدون أنها تعتمد على الترويج الدعائي، ولا يمكن للناس التحقق منها، ويستقون معلوماتهم عن المرشحين من الإعلام الذي يمكن أن يضللهم، ويصل فيه إلى المناصب من ينفق أكثر على الدعاية، أو يعتمد على تبرعات الأثرياء. لا أقول إنها الطريقة الأفضل، وأنها لا تخلو من العيوب، إنما أردت فقط أن نطلع عليها من باب المعرفة.
والصين لا تدعو إلى أن يقلدها آخرون، وترى أن لكل شعب سماته وثقافته وأعرافه، ويمكن الإنطلاق بالجيد منها، ونبذ الخاطئ أو ما ثبت فشله، وهي تنطلق من إرثها الحضاري مع الفلسفة الإشتراكية والقيم الكونفوشوسية والخبرة العملية، وتطوير التجارب، وفتح الأفق لأساليب جديدة تنتج أفضل الكفاءات للإدارة. وتنتقد الصين الديمقراطية الغربية وتعتبرها خداعا، فلا تقدم للناخبين إلا أحزابا ومرشحين يمثلون نفس الطبقة الثرية والمتحكمة، ولا فروق جوهرية بينهم، ويظن الناس أن تغيير شخص سيكون مؤثرا ويحل مشاكلهم، لكن النتائج تثبت أن شيئا لا يتغير في الحقيقة، وإنما التغيير في أشخاص تأتي بهم نفس الطبقة المحتكرة للمال والإعلام ومراكز التأثير.
