إبداعات عربيةعاجل

الكاتبة الفرنسية آن بوريل “للوسط العربي”: أبطال قصصي لديهم وجوه كثيرة

 

حوار : احمد عبد الحافظ

في رواياتها الثلاثة التي تمت ترجمة اثنتين منها للغة العربية منذ عدة شهور، وصدرت في القاهرة، تتحرك الروائية الفرنسية آن بوريل في فضاءات مدهشة، حيث تجعل من أعمالها “جران مدامز” و”المدعو الأخير” المنتسبتين لمطبوعات دار “ويلوز هاوس”السودانية والتي تتخذ من القاهرة مقرا لها، و”اختراع الثلج” الابنة الأحدث لبوريل، والتي خرجت نسختها العربية منذ أقل من أسبوع عن “دار المرايا” المصرية.

 إشارات كاشفة تفضح عالم الجريمة، وظاهرة العنف المتفشية ضد النساء في المجتمعات الغربية بشكل عام، وتكشف عن مساوئ العنصرية وتأثيراتها السلبية على المجتمع الفرنسي خاصة، ومحاولات فرض جماعات معينة بعد حصولهم على جنسية البلد المضيفة أفكارهمالتسلطيةلفرض الوصاية على المواطنيين الأصليين..

وفي هذا الحوار الذي أجرته  مع آن بوريل حاولت أن أستقصي رؤاها حول إبداعاتها الروائية، وما تعرضت له من قضايا أولتها عناية خاصة وجعلت من أعمالها السردية فضاءات للتعبير عنها وإثارتها.

سألتها في البداية عن السبب الذي جعلها تتجاهل كتابة أرقام أو عناوين تستهل بها فصول رواياتها؟

قالت: أريد أن أذكر أن “جران مدامز” هي جزئيا رواية طريق. تبدأ في الحدود بين فرنسا وإسبانيا، وتنتهي على الطريق السريع بالقرب من تولوز. وإذا نظرت إلى خريطة لهذه المنطقة، ورسمت خطاً من لاجونكيرا إلى تولوز. سوف تسافر على طول البحر الأبيض المتوسط، ثم مباشرة عبر جبال البرانس.  وسوف تُواجه بعد ذلك بمئتين وخمسين كيلومترا من الطرق السريعة التي ستوصلك إلى النقطة الأخيرة في الرواية. عند ذلك ستكون قد أنتجت خطًا رمزيًا خياليًا، وهو المطبوع في ذاكرتي وعلى عظامي.

لكن ماذا تقصدين بهذا الخط الرمزي؟

يمثل هذا الخط الخيالي جغرافيا حقيقية. وقد أردت أن تكون روايتي سريعة وغاضبة.وأن تهرب شخصياتي فيهامن أشياء كثيرة مثل حياتهم السابقة، وأسرارهم، ومخاوفهم، ورغباتهم، وغضبهم.

لكن ما مبرر جعل الفصول قصيرة وبلا عناوين؟

ساهمت الفصول القصيرة التي ظهرت بدون أرقام أو عناوين في الإسراع بإيقاع السرد، وبما أن شخصياتي خارجة عن القانون، لذا تخيلت روايتي، خارج قانون الروايات الواقعية البحتة. وفيها قمت بمزج تقنيات مختلفة، وأضفت حوارات كتلك التي تستخدم في المسرح، واستخدمت الفراغ في الصفحات، وحيكتُ نكاتًا، وكسرتُ تقنية رواية الطريق بجزء ثابت طويل، حيث تفاجأ الشخصيات بحرارة الصيف. وما أريد هنا أن أقوله أن كل عمل روائي له هندسته المعمارية الخاصة اعتمادًا على القصة، و”جران مدامز”وفقا لهذا المعنى رواية حرة، كما نقول؛ مثل الشعر الحر.

كيف كانت البداية إذن؟

في المنطقة التي تحدث فيها المشاهد الأولى، الأجواء صعبة ولا تطاق، الرياح قوية جدًا، والأشجار بسبب ذلك لا تنمو بشكل مستقيم. في بعض الأحيان، من المستحيل المشي تحت هذه الرياح المجنونة. بالكاد يمكنك التنفس، وأن ترى أمامك. أتذكر أنني شعرت بهذا عندما كتبت المشاهد الأولى. كتبتها داخل الاضطراب وهوج الرياح. وقد حدث ذلك بعد أن زرت محطة الوقود التي وُلدتُ أنا نفسي فيها، على جانب الطريق القومي، في جنوب فرنسا.  وقد دُمِرَ المنزل وجميع المباني لاحقًا. لم يتبق شيء سوى مضخات الغاز، التي أصبحت الآن أوتوماتيكية. لم يكن هناك سوى قطعة كبيرة من الأرض الفارغة حيث عشت أنا ووالدي. عند الوقوف على منزل الجيران، شاهدتُ جدار حديقتنا الذي لا يزال سليمًا. كانت والدتي قد سمرت مسمارًا لتعليق قفص احتفظت فيه بطائر؛ حالما أنهي ثعلبٌ حياته. كان المسمار لا يزال هناك على الحائط. يا لها من تفاصيل غريبة! حاولت أن أتذكر أين كانت الغرف. وتظاهرت بالجلوس على طاولة العشاء. ثنيت ركبتي ووجدت أمام عيني نفس المنظر كما كان وقت طفولتي. لقد مضى أكثر من 25 عامًا. ومع ذلك، في ثانية، يعود الماضي إليَّ. كانت عاصفة في رأسي.

هل تدمير محطة البنزين كان المحرك الأساسي لفكرة رواية “حانة جران مدامز”؟

نعم. على الطريق السريع وأنا عائدة إلى المنزل، جلستُ داخل سيارتي. قررت أن أكتب قصة تعود فيها محطة البنزين المدمرة إلى الحياة مرة أخرى. أخترع فيها بعض الأشخاص الجدد لجعلها على قيد الحياة. عائلة جديدة أجعلها تدخل في صدام مع مجموعة أخرى من الشخصيات المعارضة لها تمامًا. وقد تبادرت شخصيات مثل “مارييل” ووالدها ووالدتها إلى الذهن، وكانعلى الجانب الآخر من الطريق، شخصيات الأجداد.

ثم ماذا؟

بعد ذلك، وفي حالة جنون، جلبتها رياح الجنوب الهوجاء، ظهرت امرأة “بيجونيا مارس”، بصحبة رجلين طويلتين وابتسامة مدمرة، تحمل كلبًا قبيحًا له فراء خليط بين الأبيض والأسود. وكان الاثنان الآخران، “لودوفيك” و”فيتش”؛ الرئيس، وصديقه الصيني.

كان الثلاثي ممتلئين بالحياة، وسرعان ما ارتكبوا جريمة قتل؛ يجب أن أقول إنني كنت أتخيل تلك الجريمة وأنا في سن المراهقة، عندما سافرنا ذات مرة مع أعز صديقاتي ووالديها إلى إسبانيا وعلقنا على الطريق السريع لساعات في ازدحام مروري ضخم – ساعات حقيقية – في الجزء السفلي من نصب الكتالونيين. كنت أتخيل أن شخصًا ما قد قُتل في الليل ووُضِع على الدرج الأخير من النُصب التذكاري الشبيه بالإنكا. استطعت أن أرى القميص الأبيض مثل العلم على قمة الهرم.

معنى ذلك أنك استوحيت بعض أحداث الرواية من الذاكرة؟

غالبا ما أعمل من مخزون الصور التي سجلتها ذاكرتي أحيانا منذ عدة عقود. عندما عادت جريمة القتل هذه إلى كتاباتي، ساعدتني حقيقة.لم يكن أحد يعرف سبب ارتكاب الثلاثي لها – ولا حتى أنا في ذلك الوقت –وقد وضعتني في خطوط سردية سهلت لي إظهار الشخصيات الثلاثة في كامل وحشيتهم. وقد كنت أريد أن يسقط القارئ في نفس “الشراك” التي أنا فيها، أجعله تحت تأثير جنون ريح الجنوب والحاح الذاكرة، ليصبح مأخوذًا بقوة تفوق قدراته.

في “حانة جران مدامز” يرتكب الثلاثي “الصيني والعاهرة ولودوفيك” جريمتي قتل الأولى ضد شخص مجهول هو “الكتالوني” ودون أسباب واضحة، لم تتضح في نسيج الأحداث أي محركات لهذه الجريمة، أما الثانية فكانت لمعاقبة شخص كان دائما ما يغتصب الطفلة “مارييل” التي التقوها صدفة في رحلة هروبهم من الجريمة الأولى؟

إذا كانت جريمة القتل الأولى جزءا من افتتاح الرواية بالمعنى الموسيقي، مثل الأوبرا، فإن القتل الثاني هو بالطبع جزء من الحبكة.

وهنا يجب أن أعترف بأنني أعرف الآن سبب ارتكاب جريمة القتل الأولى. كتبت رواية بعنوان” ملك الليل والنهار”، ستصدر في أبريل المقبل في فرنسا، وآمل أن تترجم قريبًا إلى العربية، أحكي فيها لماذا قتل الثلاثي الدموي الكتالوني.

معنى هذا أن رواياتك تستكمل وتفسر أحداث بعضها؟

رواياتي، على الرغم من اختلافها الشديد عن بعضها البعض – وأنا أوضح هذه النقطة هنا – غالبًا ما ترتبط ببعضها، مما يجعلها مثل شبكة من المراسلات. فشخصية “علي طالب” مثلا الذي يرتبط في نهايةأحداث (حانة جران مدامز) بقصة حب مع العاهرة”بيجونيا مارس”، سيظهر مرة أخرى في روايتي “اختراع الثلج”، الفتاة الصغيرة في رواية “الزائر الأخير” ستكون مختلة وظيفيًا، وتصبح سيدة بالغة، تعزف على الجيتار في فرقة موسيقية، في رواية تسمى “الحياة الحديثة”، تصدر قريبًا في الدار البيضاء.

لكن كيف ترين هذين الموفقين المتعارضين.. كيف لثلاثة من الخارجين على القانون أن يكون لديهم هذا النزوع نحو القصاص من العجوز التي كانت تسخر من الطفلة وتتنمر عليها، بسبب بدانتها، ومن العم المجرم “مغتصب الطفلة” وهو بالتأكيد لا يتميز عنهما في شئ، فكلاهمايشبه الأخر؟

الحقيقة أنني لا أريدُ صناعة أو خلق الشخصيات السردية ككتل. الخارج عن القانون مثل رئيس المجموعة يصبح فجأة مثل أي رجل لديه قلب، أمام فتاة صغيرة تنتهك. يذوب. قلبه يغرق. هناك شيء ما يتغير، مع تطور الأحداث، في الطريقة التي ينظرون بها إلى العالم عند وصولهم إلى محطة البنزين. هناك، كان من الممكن أن يصبحوا أشخاصًا جيدين وعاديين، ويقضون وقتهم في سرد النكات لبعضهم البعض وشرب نبيذ الروز تحت شجرة السنط. لكن الشر طرق بابهم مرة أخرى. كان نائمًا بداخلهم، ولكن عندما استيقظ، فهموا ما يجري، أصبح الرئيس “لودوفيك” وزملاؤه، “بيجونيا” و”الصيني”، أكثر شراسة من أي وقت مضى.

كانوا مستعدين لفعل أي شيء من أجل “مارييل”، وقد ظهرت هنا وبطريقة خفية ونفسية، لتحقيق ما ينقصهم. على الجانب الآخر، لا يمكن لأحد أن يفهمها أفضل من هؤلاء الثلاثة لأنهم يعرفون الكثير عن الشر. يمكنك أيضًا قراءتها؛ على أن الثلاثة”وحوش” وسوف يخلصون “مارييل” مما تعانيه، لأنها تُركت بمفردها وغير محمية.

هنا أريد أن أوضح أنني كثيراً ما أتساءل عما إذا كان الأدب يؤدي دوره في التطهير، ومعه أي شكل من أشكال الفن أيضا، وإمكانية ان يكون لديه القدرة على تحويل أسوأ ما في كل واحد منا إلى ملك “تطهير شغفنا” وفقا لتعريف أرسطو. وقد طرحت هذا السؤال بوضوح في “حانة جران مدامز”.

في جران مداميز تشيرين إلى ان العاهرة “بيغونيا مارس” كانت تدرس الأدب قبل تورطها في ما تقوم به، بداية من العمل نادلة في حانة ليلية، ثم تورطها خطوة بخطوة نحو الانحراف، ثم تبنين معمار الرواية كله على هذه التفصيلة حيث تجعلينها في كل مشهد تصف المكان وتتابع معالمه وتبرز ما فيه، كأنها تسعى لاستعادة ما كانت تطمح للوصول إليه من دراسة الأدب، والاشتغال بالكتابة.. ما رؤيتك لهذه الاستراتيجية في البناء لروايتك؟

تبدأ حياة بيجونيا من نقطة واقعية للغاية. وقد قرأتُ مقالات في الصحافة وعلم الاجتماع عن الدعارة بشكل عام، وعن قرية “لاجونكيرا” حيث لا زال الحال كما هو إلى يومنا الحاضر.  ووجدت العديد من القصص عن الطلاب الذين واجهوا مصيرًا مشابهًا. لقد أرادوا كسب حياتهم من خلال وظيفة ليلية “سهلة”، بدأ الأمر ممتعًا وشقيًا ومسليًا وأفضل أجرًا من أي وظيفة طلابية مشتركة.  لكنها كانت الخطوة الأولى في عالم الهلاك. ثم فكرت في الكاتب “مارسيل بروست”. في روايته “ذكرى الأشياء الماضية”، يكتب في الواقع عن الكتابة. في نهاية المجلدات السبعة، نفهم أن ما أراد كتابته وما قرأناهكان فعليًا.

أثناء السير على خطى “بروست”، سيد جميع الروائيين العشرين والواحد والعشرين، أردت استخدام نفس الهندسة المعمارية، ولكن في رواية قصيرة واحدة. بدلًا من الجمل الطويلة وشخصيات الطبقة العليا، اخترت استخدام جمل قصيرة وأشخاص منبوذين وعائلة مختلة،وجعلتهم مثل مشبك داخلي في الرواية.

وماذا عن فكرة جعل العاهرة دارسة للأدب؟

– الفكرة تتضح بالطبعيتضح في نهاية العمل، فقد أرادت بخطاباتها لصديقها “علي طالب” أن تؤرخ، وتُثَبِّتْ اللحظة التي وصلتْ إليها، من لحظة تحولها إلى عاهرة حتى دخولها السجن.تشير في نهاية الرواية إلى أنها -أثناء وجودها في محبسها- تكتب في رسالة إلى علي طالب، “الكتابة لم تتركني ألتزم الصمت”. “قالوا لي إن بإمكاني الاحتفاظ بالحاسوب في زنزانتي. حتى أنهم أعطوني ورقًا وطابعة وكرتونًا وأقلام رصاص وممحاة مسطحة كبيرة لم تساعدني. كتبت دون شطب، تركت الكتابة كما جاءت”، وهذا بالطبع يماثل تماما وعي كاتب دارس للإبداع.

لدي سؤال حول استراتيجية الكتابة لديك “هل تعتقدين أن الكاتب عندما يكون في لحظة صفاء وتجلٍ يمكنه أن يكتب عملًا دون شطب لكي يحافظ على حميمية ما كتب وصدقه، أم أن عليه أن يعمل على ما كتب مرات ومرات حتى يرضى عنه من زاوية احترافية؟

حصلت بيجونيا في السجن على جميع الأدوات اللازمة للكتابة: جهاز حاسوب وطابعة وأقلام حبر وأقلام رصاص وممحاة. واستخدمتهم جميعًا، ربما جربتهم واحدًا تلو الآخر.

ونظرًا لأنني أردت أن تتجاوز الرواية حدود السرعة، لاستخدام استعارة الطريق، فقد تركت “فجوات” للقارئ لإكمالهابخياله الخاص. لكن، بيني وبينك، أعتقد أن “بيجونيا” تتباهى قليلًا عندما تقول إنها كتبت دون توقف. 

وجملة “كتبت دون شطب، تركت الكتابة كما جاءت” استعرت أنا كتابتها من جملة للكاتبة “مارغريت دوراس”، وهي واحدة من السيدات العظيمات في عصرنا. في روايتها “إميلي ل”، كتبت دوراس “أنه يجب ترك الكتابة كما تترك كل شيء في حالتهومظهره”.

لكن هل تعتقدين أن هذا ما فعلته “دوراس” في روايتها فعلا؟

حين كنت في مرحلة الدراسة، قرأت مخطوطة دوراس، وأقسم أن العمل على النص كان هائلا.  لكن دوراس تضع إصبعها على مفارقة مثيرة للاهتمام: بالطبع، يجب على الكاتب العمل مرارا وتكرارا على نصه. غالبًا ما نستخدم صورة “بينيلوب”في ملحمة الأوديسة اليونانية التي كانت تقوم بالحياكة في النهار وتتراجع عنها مرة أخرى في الليل حتى لا تضطر إلى اختيار زوج آخر أثناء انتظار عودة، “أوليس”.

هنا يمكن القول أن كل كاتب هو بينيلوب، يفعل ويتراجع، ويحذف، ويبدأ من جديد عمله الذي لا ينتهي أبدًا. ربما استخدمت “بيجونيا” الورقة والقلم الرصاص والممحاة في النهاية. لكن علينا أن نجد هذا الصدق الذي ذكرته. هذا هو المكان الذي تكمن فيه المفارقة. من ناحية، بذل الكثير من العمل والتغييرات على القصة، ومن ناحية أخرى الوصول إلى حقيقة النص. ساضرب لك مثلابنحات يعمل أمام كتلته الرخامية، يستمر في الضرب بمطرقته وأدواته حتى يظهر التمثال. بالنسبة لنا، كتلة الرخام هي القصة والأدوات واللغة وتقنيات سرد القصص.

في الرواية أيضا تحضر شخصية علي طالب في الرواية بوصفه ومضة العشق المفقود والرغبة التي تهفو إليها “بيجونيا مارس” في مقابل ما كانت مجبرة على فعله في الملهي الليلي، هل كان ما آلت إليه قصتهما كافيًا لتشعر “مارس” بإنسانيتها وكينونتها كأنثى تريد ان تحب وتشعر أنها قاردة بحرية على اختيار معشوق لها؟

أصبحت بيجونيا عاهرة، لكن هذا لا يسلب إنسانيتها، بل على العكس تمامًا لأنها اضطرت للعيش بالقرب من الشر، فهي تعرف الكثير عن البشرية.

في رواياتي، لا توجد شخصية جيدة أو سيئة، هم مزيج من الشر والجمال والقبح والخير، هكذا تظهر جميع شخصياتي الروائية. الأدب ليس أبدًا معاهدة أخلاق. يطرح الأدب أسئلة ويحفر في مخاوفنا ومحرماتنا.

انظر إلى والد “مارييل” إنه لا يتوقف أبدًا عن الصراخ، وينزعج بسرعة كبيرة، ويمكن أن يخطئ، ويمكن النظر إليه على أنه “قلادة الزعيم”. كما يمكن وضع الصيني بالتوازي مع والدة مارييل، و”مارييل” و”بيجونيا” كأخوات.

ومن الواضح أن علي طالب أيقظ مشاعر بيجونيا. إنه مثل أغنية في رأسها وفي قلبها. علي طالب شخص لا يقاوم، وكل امرأة تقع في حبه. وقد كنت أنا الأولى التي وقعت في حبه،وحتى لو كان هذا خياليًا تمامًا. لقد طاردني لفترة طويلة بعد الانتهاء من هذا الكتاب، وظهر لي مرة أخرى في الكتاب التالي، ليزيد من دهشتي!.

 تظهرين العاهرة في “حانة جران مدامز” بوجودين مستعارين، الاسم المستعار الذي حصلت عليه في الملهى الليلي وهو “بيغونيا مارس”، والرقم “421” الذي حصلت عليه بعد دخولها للسجن، فيما يظهر أخيرا اسمها الحقيقي “فيرجيني لوبيسكو” وهي تستعيد في إشارات سريعة علي طالب والأمل في الخروج من السجن وبداية حياة جديدة؟

البغايا في كثير من الأحيان ليس لديهم حياة. إنها واحدة من الأجزاء الخفية في المجتمع. إنهم مثل الصناديق حيث يضع الرجال أسوأ وأتعس حياتهم الجنسية. لذلك، فإن هوية هؤلاء النساء ضبابية وغير مستقرة.

الرقم الذي أعطيته”بيجونيا” في السجن، 421، هو أيضا اسم لعبة نرد. هناك إشارة إلى قصيدة استيفن مالارمية: “رمية النرد لن تلغي الفرصة أبدا (1897).” لقد لعبت بالأبيات الغامضة للعثور على بعض صور روايتي، وقد سررت حقًا بتحويل القصيدة المعقدة المكونة من 20 صفحة إلى نوع من الرواية السينمائية.

أما بالنسبة للحياة الجديدة لبيجونيا مارس، الاسم المستعار فيرجيني لوبيسكو، ورقم 421، يمكنك أن تتخيلها كما تريد. يمكن لشخص ما حتى كتابة رواية عن الحياة الجديدة لفيرجيني لوبيسكو. إنه تحد أقدمه للقارئ!  إمكانيات الأدب، وما يقوله وما يقترحه لا حصر لها ومفتوحة بعنف. الأدب هو أيضا لعبة، لعبة تحتفل بالحياة بأعمق حرية وحماسية.

تصورين السجن كما لو كانت نوعًا من المطْهر الذي تتطهر فيه “مارس” بطلة الرواية وتتخلص من أثار تاريخها في الملهى الليلي.. كيف لمكان تتقيد فيه حرية الناس حتى لو كانوا مجرمين أن يكون مطهرًا ومساعدًا على الخلاص من أثار ماضٍ بائس؟

خرج العديدُ من الكتاب الذين وضعوا في السجن بروايات قوية: الماركيز دي ساد، وجان جينيه. يحتاج الكتاب إلى نوع من العزلة لإبعاد أنفسهم عن الحياة اليومية للتركيز على عالمهم الداخلي، ودون مقارنة إقامات الكتابة بالسجون، حيثُ إن كتابة الإقامات أكثر راحة وسعادة، فقد تم إجراء بعض أوجه التشابه، ونحن لا نخرج لفترة طويلة من الزمن، لا نرى أحدًا، نحن نحبس أنفسنا بمفتاح الكتاب المراد صنعه.  بالطبع، نحن نفعل ذلك بحرية ونحن مجرد سجناء حلمنا.

أما بالنسبة للسجن الذي تدخله بيجونيا، فلم أنظر إليه كمطهر؛ بل صفحة بيضاء. وربما كانت الصفحات الفارغة هي نوع من المطهر.

في رواية “المدعو الأخير” هل سعيت لأن يكون هناك نوعا من المقابلة بين شخصية البطلة الصغيرة “بياتريس”، التي تعرضت في طفولتها للاغتصاب من ابن العم المعتوه وبين مارييل الطفلة التي تتعرض للاغتصاب من العم المعتوه أيضا؟

الاغتصاب في الأسر لا يزال موضوعًا لا نهاية له، للأسف، وسيحتاج إلى أكثر من كتابين. أنا شخصيا توقفت، على ما أعتقد، عن الحديث عن ذلك. لكنها مشكلة عميقة للغاية. العائلات هي مجتمعات صغيرة، وهي المكان الذي يتم فيه لعب المشاهد الأكثر حميمية، ويمكن فيه دعوة الشر للحضور والجلوس على مائدة العشاء.

تقوم بطلة رواية “المدعو الآخير” في صبيحة يوم زفافها بارتداء حذاء رياضي، وتذهب للركض لساعات في الغابات وهي تسمع الموسيقى.. هل كان هذا محاولة لتشيرين إلى رغبتها فيالهروب من تاريخها القديم وما تعرضت له في طفولتها من اغتصاب؟

نعم بالطبع. تحول العنف الذي تلقته إلى غضب كبير وارهاق. طريقتها الخاصة للرد هي استخدام قدراتها الجسدية إلى أقصى حد، و”إفراغ نفسها” من هذا الغضب الهائل، وقد سمحت لي هذه المشاهد بالكتابة عن الطبيعة البرية لمنطقتي، وشجرتها الشائكة، وأعشابها ذات الرائحة وجمال الحجر الجيري. جغرافية هذه الرواية مهمة جدا أيضا وروائح جنوب أوروبا، حيث أتيت، تلعب دورًا كبيرًا في الرواية. كان لديَّ صوت الفتاة التي تركض في رأسي: أنفاسها، وصوت خطواتها على الأرض، والموسيقى التي كانت تستمع إليها، وكنت أرى ذيل المهر يرقص وسط النباتات القاحلة.

في جران مدامز يبدو حضور “علي طالب” وكأنه اللحظة المضيئة في حياة “مارس” فيما يظهر “رولاند العنصري” عمدة “فيلغوج” بفساده ودوره في تدمير الحياة فيها واستغلالها في الأعمال المشبوهة، وهناك على جانب متصل يبدو حضور الأجانب بمن فيهم العرب مثيرًا للخوف والإرهاب والتهديد.. كيف ترين هاتين الصورتين المتعارضتين لوجود الأجانب في الروايتين؟

بما أن فرنسا بلد حقوق الإنسان، وموطن فولتير وغيره من المفكرين الأحرار، فهي أيضًا أرض ملوثة بالأحزاب السياسية العنصرية وكراهية الأجانب. فمن ناحية كان الناس يساعدون اللاجئين في الجمعيات أو بشكل فردي، ومن ناحية أخرى تدمر الشرطة خيام المهاجرين الفقراء. من ناحية، تعد فرنسا بوتقة انصهار كبيرة وخارجة، تثري بموجات الهجرات المختلفة، ومن ناحية أخرى، يخشى الناس من التعرض للغزو. انظر إلى الأجنبي الذي أنت عليه قبل أن تخشى أي أجنبي، وهذا ما أود أن أقوله.

وكما هو الحال في العديد من الأماكن الأخرى في أوروبا، الشعبوية تعد اتجاه وتهديد. ومع ذلك، تتمتع أوروبا أيضًا بتاريخ طويل من الترحيب. لذلك، هنا تأتي رواياتي كمرآة للمجتمع، وتتعايش فيها وجهتا النظر بين شخصياتي.

هناك حس شعري لامع في كثير من مناطق القص في الرواية، كيف تنظرين إلى هذا الملمح.. ألم تخشي أن يؤثر الحس الشعري على السرد وفاعليته في الحدث؟

اعذرني إذا كنت مخطئة، لكنني شعرتُ أنه فقط من خلال صنع قطعة جمالية من العمل، يمكنني جعل القصة تزدهر وتتدفق المشاعر. “لقد أعطيتني الطين، لقد صنعت منه الذهب”، قال تشارلز بودلير في افتتاحية ديوانه “أزهار الشر”.

واللغة سلاح، كلنا نعرف ذلك وباستخدامها بكل إمكانياتها، وإنشاء الصور، وعمل القوائم، وكتابة قصيدة، واختراع أفعال جديدة، واستخدامها لصنع الموسيقى والإيقاع، وخلق عالم آخر، وهمي، صعب ولكنه جميل ووسيلة لمحاربة القبح والشر الذي يفرضه المعتدون.

كيف ترين هذا المزج والتفاعل بين أجواء القرية وما آلت إليه من رائحة خانقة وبين ما يدور فيها من أحداث طاردة لأهلها ودفعهملبيع أملاكهم ومغادرتها؟

“الأجانب” في القرية ليسوا لاجئين أو مهاجرين لكنهم قادمون من العاصمة باريس أو من دول مجاورة، معظمها من شمال أوروبا. يأتون إلى الجنوب لقضاء عطلاتهم، وبعضهم لديه منازل عائلية. هنا، في قرية فيلروج، الناس عنصريون وانتخبوا عمدة يمينيًا متطرفًا، لكنهم لم يروا الكثير من الأجانب، والكثير من العرب والرجل الأسود الوحيد الذي عرفوه يأتي من مارتينيك. إنه فرنسي.

إذا لاحظنا التصويت لليمين المتطرف  في فرنسا، ففي العديد من الأماكن  يصوت الناس من أجل التخلص من الأشخاص الذين لا تتاح لهم الفرصة أبدا للاختلاط بهم لأنهم لا يرونهم إلا في الأخبار! لو فعلوا ذلك، لما صوتوا بالتأكيد لصالح أحزاب كراهية الأجانب التي من شأنها أيضا أن تتعارض مع حقوقهم. لم يأت المهاجرون إلى القرية أبدا. لكن القرية تريد التخلص منهم. هذا وضع سريالي. مثل الفصام الموجود في المجتمع الفرنسي.

أردت أن أظهرها بشكل ملموس كما رأيتها تحدث في بلدة مثل أورانج حيث دمرت حكومة اليمين المتطرف ليس فقط الوضع الاقتصادي ولكن أيضا كل أنواع السعادة والرفاهية وحتى الثقافة.

لإعطائك مثالا، المسرح في أورانج مغلق الآن ومحاط بدوار.  فكرت في هذه الرؤية الخانقة – مسرح أصبح يتعذر الوصول إليه، يعتبر ميتا بموجب القانون – عندما كتبت رواية “المدعو الأخير”. أردت أن يتذكر القارئ أن التصويت ليس مزحة. في فرنسا، يصوت الناس أقل وأقل، مما يسمح للأحزاب المتطرفة بالفوز بالسلطة. لقد فقد معظم مواطني الثقة في الرجال والنساء السياسيين الذين يحكمون، بالطبع هم أسباب، لكنهم ينسون أن الديمقراطية يمكن أن تختفي في لمح البصر ويبقى واجبنا هو التأكد من بقائها مستقرة.

أما بالنسبة للرواية، فإن التغيير يأتي مع وصول ابن العم. لقد تأثرت بفيلم،الإيطالي، لبيير باولو بازوليني حيث تظهر شخصية رجل، غريب، في عائلة لإحداث تغييرات جذرية. عندما يغادر فجأة كما حضر فجأة، يختلف أفراد الأسرة الخمسة وخادمهم تمامًا. لأنه كشف عن شيء مخفي في كل واحد منهم.

في رواية المدعو الأخير، ابن العم ليس غير معروف أو مجهولًا، بل على العكس تماما، فهو معروف جيدًا من قبل الأبطال الرئيسيين ويجلب رياح الماضي معه. كان بإمكاني أن أبدأ الرواية من تلك النقطة، بمشهد يظهره وهو يصل إلى القرية على دراجته، لكنني لم أرغب في سرد القصة من الألف إلى الياء، بل عن طريق الالتفاف حول الجزء الحاسم، وهو وصول ابن العم. مثل دوامة المياه في نهر. اعتقدت أنه سيعكس الكرب الذي يثيره وصوله للعروس، وسيؤكد على التشويق والتوتر.

رسمت ثلاث طبقات، مثل رواسب النهر. الطبقة الأولى هي جري العروس وسط الأحراش، والثانية هي صنع فستان الزفاف وما يحدث خلال الأسبوع السابق للزواج حتى يظهر ابن العم. وكانت الثالثة هي وقت الزفاف، وهكذا تؤدي جديلة مصنوعة من هذه الشرائط السردية الثلاثة إلى حل القصة.

وقد أردت أيضًا أن أكتب رواية “المدعو الأخير”، كقطعة من تصميم الرقصات لأن الكتابة كما يرقص المرء هو أحد شعاراتي: الخفة والحرية والجماليات وأهمية الجسد. تتم كتابة بعض الأجزاء فيها بدقة كجزء من الرقص: عندما ينتظر الضيوف وصول العروس، فكرت في تصميم الرقصات لدومينيك باغويت، مصمم الرقصات العظيم في الثمانينات؛ الذي جلب شيئًا جديدا تمامًا في تاريخ الرقص المعاصر. أحب أن يتم تحويل رواية المدعو الأخير في يوم من الأيام إلى باليه. ربما بقلم أنجيلين بريلجوكاي أو أكرم خام أو بشرى ويزغيم.

الرائحة الخانقة تغطي سماء القرية…هناك تحت الغطاء، كل الشؤون المثيرة للغثيان: الشعبوية، النظام الأبوي، إدمان الكحول، الاغتصاب، القتل، العنصرية، الخيانة. سمها، ستجدها! حتى المعالجون الزائفون والكتاب الذين ينشرون أنفسهم محتجزين تحت الرائحة الكريهة الكثيفة في عصرنا. ومع ذلك، هناك أمل، ولا يستطيع البعض تحمل هذا ويفضلون المغادرة ربما من أجل بناء شيء آخر، في مكان آخر. في النهاية، ما الذي يهم؟ الأرض والجدران أم الحرية؟ الحنين إلى الجنة المفقودة أم كل ثانية من الوقت الحاضر؟.

الهدف من هذه الرواية هو رؤية ما كان مخفيًا بالغطاء. الوجود المستمر والصاخب لحشرة يزيد من ثقل الغطاء. إنها مخلوقات غريبة، تبقى تحت الأرض معظم العام قبل الخروج إلى النور؛ يجب قراءتها بطريقة رمزية. أعتقد أنها أحد مفاتيح فهم الرواية.

في القرية، تأتي شخصيتان للعمل كنظراء للشر والغثيان: جياني بيروزي، باسمه الراقص، هو الجوكر المرح، الشخص الذي يحب الحياة وطيب القلب وكزافييه دابادي، المارتينيكي الرومانسي والمتوازن. وشقيق العروس هو العضو الوحيد في أسرة مالافال، ويأتي على نقطة لتحرير نفسه من العائلة المزعجة.

الخلاصة أن روايتيَّ مرتبطتان بنفس موضوع العنف الجنسي، ولكن كل منهما تقدم عالما مختلفا تماما، والقصص مختلفة والجو أيضا. “جران مدامز” هي مدرج المطار،و”المدعو الأخير” هي رواية الزهور.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى